الرأي

صراع بين الأوحدية وحقائق التعددية

عبد الإله بلقزيز

تستبد بنظام العلاقات الدولية، اليوم، مفارقة حادة تفصح عنها حالة التجافي بين أوضاع التوازن، ووضع الاختلال في التوازن. والمفارقة التي نعني تبدو على النحو التالي: أوحدية قطبية في ميدان السياسة الدولية، في مقابل تعددية قطبية على صعيدي القوى الاقتصادية، وإلى حد ما القوى العسكرية. ومع أن قوة أي طرف سياسي في النظام الدولي تتقرر بمدى ما لدى ذلك الطرف من أسباب القوة الاقتصادية والقوة العسكرية، إلا أن القاعدة هذه لا تجد لها تجسيدا ماديا في النظام الدولي الراهن.
كان يمكن فهم أسباب استتباب حالة الواحدية القطبية في النظام الدولي غداة انتهاء حقبة الحرب الباردة؛ فلقد انهار – حينها – الاتحاد السوفياتي، بعد انفراط معسكره الأورو – شرقي، وزالت بانهياره المنظومة الثانية (الشرقية) في النظام الدولي، وما عاد من منافس عسكري أو اقتصادي أو سياسي لمعسكر الغرب. وكان يمكن أن تُفْهم، أيضا، أسباب قيام حالة الأوحدية القطبية في النظام ذاك، في ضوء حقيقتين: أولاهما التفوق الاقتصادي الأمريكي على اقتصادات أوروبا واقتصاد اليابان، بعدما شهدت على حال من الانكماش منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، والإخضاع الاقتصادي الأمريكي لاقتصادات الغرب كافة، ناهيك بالتحكم المالي والنقدي فيها؛ وثانيهما التفوق العسكري الأمريكي الكاسح على دول الغرب جميعها، مع الاستمرار في منعها من بناء قدرة عسكرية مستقلة (كما في حالة أوروبا)، أو من التسلح الاستراتيجي (كما في حالة اليابان وألمانيا)، أو من الخروج من نطاقات السياسات الأطلسية أو من القرار بفرض حماية «الناتو» لبلدان الغرب.
جرت رياح التطور في مصلحة نشوء حقائق وأوضاع جديدة مختلفة، عما كانت قد استقرت عليه صورة التوازنات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ فلقد خرجت روسيا الاتحادية من كبوتها – التي كانت فيها في عهد بوريس يلتسين – معافاة إلى حد كبير؛ حفظت وحدتها الكيانية من الانفجار بعد إخماد حركات الانفصال فيها (المدعومة من الغرب)؛ وضربت قوى الفساد والقوى الطفيلية ومافيات المال، التي انتعشت في عهد الليبرالية الوحشية في التسعينيات، وأعادت بناء اقتصادها الوطني وطورت صناعتها وتكنولوجيتها؛ وأعادت بناء قدرتها العسكرية بعد تطوير صناعتها الحربية وبلوغ سلاحها مراتب المنافسة الندية مع السلاح الأمريكي. وإلى ذلك خطت روسيا، خطوات جبارة، على طريق شق سبيل للتعاون والتبادل الاقتصادي والتجاري مع دول العالم كافة، مبناه على فكرة المصالح المتبادلة. ولم تكن هي إلا فترة وجيزة، من عهد الرئيس ڤلاديمير بوتين، حتى كانت روسيا تنظم هجومها السياسي المعاكس فتستعيد نفوذها في بعض مناطق نفوذها التقليدية، وتفرض النظر إليها، لدى قسم كبير متزايد من الدول، بوصفها دولة عظمى ذات نفوذ وقد تكون مبعث تعويل على دور توازني تقوم به في الساحة الدولية.
في الأثناء، انتقلت الصين إلى صف القوى الكبرى الست في العالم، في أوائل القرن الحالي، وهي – اليوم – ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، وقد تصبح القوة الأولى بعد العام 2025. وإلى ذلك بنت قدرة عسكرية استراتيجية رفيعة النوعية، تصنف في المرتبة الثالثة عالميا (بعد القوتين الأمريكية والروسية). وإلى جانب الصين، نمت قوى اقتصادية كبرى جديدة، بعد كوريا الجنوبية، مثل الهند والبرازيل مرشحة – بعد عشر سنوات – لأن تصبح مع الصين والولايات المتحدة القوى الاقتصادية الأكبر في العالم. كما نشأ قطبان جديدان في النظام الاقتصادي في العقدين الأخيرين ينافسان القطب الأمريكي (الاتحاد الأوروبي، دول البريكس)، ويدخلان في علاقات صراعية اقتصادية ومالية وتجارية معه في كثير من الأحيان.
ومع ذلك، فإن ظواهر التوازن الجديدة هذه، وقد أنتجت تعددية قطبية حقيقية، في الميدانين التحتيين لكل سياسة (الاقتصادي والعسكري)، لم تنعكس معطياتها مباشرة على صعيد القوة والدور السياسيين في العالم؛ إذ ما برحت الولايات المتحدة الأمريكية تحتكر الدور هذا على الرغم من أن موقعها الفعلي في التوازن الاقتصادي والعسكري تغير عما كانه قبلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى