
بقلم: خالص جلبي
ربما كان مريضا فانهار صحيا، أو ضالا فتعثر فسقط في الحفرة! قد يكون قد تضعضع من تسمم دموي من عقابيل جرح ملوث؟ الشيء الأكيد أن الضباع والوحوش المفترسة لم تعثر عليه، بعد أن انحشر في حفرة ضمت جسمه البالي فمات فيها. لو عثرت عليه لتركت بدون ريب بصمات أسنانها على عظامه! بقايا الهيكل العظمي لهذه الجثة عُثِر عليها في حوض (آواش) الأوسط بالحبشة بشكل غير كامل، من خلال الحفر في طبقات الأرض الجافة. وعندما وضعت للدراسة الأنثروبولوجية كانت النتيجة صاعقة تماما، الهيكل العظمي يعود إلى (4.4 = حوالي أربعة ملايين ونصف مليون سنة)! هذه الضربة الأنثروبولوجية المحكمة قام بها العالم الأنثروبولوجي الأمريكي (تيم وايت)، فقفز رقم وجود الإنسان إلى رقم قياسي جديد فالأرقام السابقة لم تتعد (3.8) ملايين سنة، كما أن إنسان لوسي لم يتجاوز (3.2) ملايين سنة. وهذا الكشف يصب في خانة السؤال الجوهري والمحوري: كم أصبح الإنسان يدب على وجه الأرض، ومنذ متى بدأت قصته على وجه التقريب؟
عندما يسبح الإنسان بفكره مع الزمن فيتصور بناة الأهرام وهم يكدحون في رفع هرم خوفو، أو حملة كزركسيس على ضفة البوسفور وبداية الماراثون، أو فيلة هانيبال وهي تعبر جبال الألب؛ أو ابن خلدون وهو متدل في سلة من سور دمشق يسعى إلى مقابلة السفاح تيمورلنك، فإن الشعور الذي يستولي عليه طول الزمن وعمقه، ولكن كل ما ذكرنا لا يقف إلا كلمح البصر أو هو أقرب مع بداية قصة الإنسان ودبيبه على ظهر البسيطة؛ فالإنسان حتى قبل عشرة آلاف سنة كان يأكل الوحوش والوحوش بدورها تأكله، وكان أقرب إلى العري. كل همه أن لا يموت جوعا، وبقي الوضع هكذا حتى دخل مرحلة الثورة الزراعية؛ فتخلص من ضغط الخوف من الموت جوعا لأول مرة في تاريخه الطويل، منذ عهد إنسان (تيم وايت) الذي أيقظوا عظامه من مضجعها للدراسة والبحث!
إنسان العالم الأنثروبولوجي الأمريكي (تيم وايت)، والذي أعطاه اسم جذر الإنسان القادم من الأرض (أردي بيثيكوس راميدوس) مات شابا يافعا تشهد على ذلك أضراسه الطاحنة المكتملة، ولكن طوله لم يتجاوز (120) سنتيمترا! يمشي منتصبا على قدمين، وهو طويل بما فيه الكفاية، ولكنه أقرب أن يكون أنثى التي هي في العادة أقصر من الرجل. ومن عظامه المتناثرة التي بلغت حوالي (106) قطع أمكن تحديد معظم أماكنها من الجمجمة والكتف والحوض والذراع والأطراف السفلية، وأهم ما تم الوصول إليه وأكثره مدعاة للإثارة رؤية اليد والقدم كاملتين، فمن القدم يعرف طرفا من المشي المنتصب، ومن اليد نهتدي إلى قصة تحررها وانطلاقها للإنتاج، بدلا من الاعتماد عليها في المشي، كما هو الحال عند الغوريلا والشمبانزي وقرد البابون؛ فمع تحرر اليد انطلق الإنسان نحو ثورة تصنيع الأشياء، فقفز من مستوى السكين الحجري إلى التكنولوجيا النووية، وهو فارق هائل بين مخلوقين، ومفرق طريق بينه وبين القردة وبقية الحيوانات، بين مصير مهدد بالزوال والانقراض، ومصير كائن يسيطر على الأرض ويستعد لإعمار بقية الكواكب أو حتى إفناء نفسه!
هذه القطع العظمية الثمينة تعتبر أهم من مناجم الذهب وينابيع البترول ومستودعات الذخيرة، فهي أهم ثروة تمتلكها إفريقيا، لأنه من دراسة هذه الحفريات يمكن تحديد بزوغ الفجر الإنساني، وفي أرضها كان مهد الجنس البشري، وأهم مكان للبحث الأنثروبولوجي هو شرق إفريقيا فمنها أشرق مجيء الإنسان للعالم، ولعل مصدر آدم وحواء منها، فلا غرابة أن اعتبرت حكومات إفريقيا أن الغربيين البيض يأتون هذه المرة في قبعات استعمارية جديدة لينهبوا كنوز الحفريات، بعد أن نهبوا اليورانيوم والذهب والعاج، وهو كل ما تبقى لإفريقيا مع بقايا الحيوانات التي تتعرض هي والغابات للانقراض، فتغضب الغابة للاعتداء عليها فتنتقم بتطوير أسلحة دفاعية جديدة بإطلاق الفيروسات المختبئة، كما حصل مع فيروس «الإيبولا» القاتل، والذي رواه الفيلم الأمريكي الرهيب «الانفجار».
ويبقى السؤال ولكن لماذا أرض شرق إفريقيا بالذات في الحبشة الجافة وتنزانيا وكينيا، حيث ينسلق الدماغ تحت حر مرعب؟ الجواب عن هذا هو في المناخ وطبيعة التربة، فمع تغير المناخ منذ حوالي ثمانية ملايين سنة بالاندفاعات البركانية، قامت كتلة جبلية هائلة في الحافة الغربية من إفريقيا تصطاد الغيوم القادمة من الأتلانتيك (المحيط الأطلسي)، فتحول غرب إفريقيا إلى طبيعة ذات أمطار غزيرة وتربة حامضة فلا تبقي على شيء من بقايا العظام، وتحول شرق إفريقيا تحت تأثير الرياح الموسمية إلى طبيعة متقلبة بين جفاف وأمطار موسمية، فجفت الأرض وارتفعت الحرارة وحفظت الحفريات وبقايا العظام الإنسانية (لحسن الحظ) تماما، كما فعلت الطبيعة مع المصريين عندما حفظت مومياء الفراعنة، وإذا كانت التربة المصرية الجافة قد حفظت جثث الفراعنة الذين طمحوا إلى إيقاف الزمن والقبض على الأبدية، فإن التربة في الحبشة حفظت بتحنيطها الطبيعي ما حافظ على الهياكل عبر ملايين السنين، وكان أعظم نموذج تم الحصول عليه وهزت أخباره العالم، عندما تقدم العالم الأنثروبولوجي الأمريكي وقتها «دونالد جوهانسون» بالكشف عن هيكل عظمي يعود إلى (2.3) مليون سنة وأخذ لقب (لوسي).



