شوف تشوف

عندما تدافع الشيوعية عن الرأسمالية

من بين القوانين المهمة التي جاءت بها الحكومة واحد يسمح للتعاضديات بفتح مصحات وعيادات لطب الأسنان وصيدليات خاصة بها.
بمجرد تقديم هذا القانون والتصويت عليه في غرفة المستشارين احتشد لوبي مهنيي الطب في وجهه وشكلوا جيشا جرارا لمنع تطبيقه، وعقدوا اجتماعات مع كل الفرق النيابية والأحزاب السياسية لشرح دوافع الاعتراض على هذا القانون الذي سيخلق، بحسبهم، فوضى في قطاع الصحة.
نقابة الأطباء المتخصصين والنقابة المستقلة لأطباء الأسنان تريدان أن تقتصر التعاضديات على بناء دور الرعاية الخاصة بالمسنين ومراكز حماية الأطفال، على أن تبتعد عن الإشراف على المصحات والصيدليات، لأن ذلك، حسبهما، يهدد حرية المريض في اختيار الطبيب الذي سيعالجه.
الحسين الوردي، الذي يعتبره رئيس الحكومة أفضل وزير صحة عرفه المغرب، قال إنه لن يسمح بمرور هذا القانون الذي يسمح للتعاضديات بامتلاك مصحاتها وصيدلياتها طالما بقي وزيرا للصحة. فالأولوية عنده هي حماية زملائه الأطباء مالكي العيادات والصيدليات من المنافسة غير الشريفة للتعاضديات.
والمدهش في هذا النقاش أن مهنيي القطاع ووزير الصحة يتحدثون عن الصحة العامة للمواطن كما لو أنها سلعة تتم المزايدة بها في بورصة السوق.
وفي كل مرة يشهرون ورقة الدفاع عن مصلحة المريض للوقوف ضد القرارات التي تمس مصالحهم المادية، وكأن أحوال المرضى في ظل الوضعية الحالية «مطفراه»، فالجميع يرى كيف يسعى بعض أصحاب العيادات والمصحات نحو الربح على حساب صحة المرضى، ومنهم من أصبح مليارديرا يستثمر في العقار والفلاحة. وبسبب هؤلاء الأطباء المقاولين ارتفع سعر العقار والأراضي والضيعات، لأنهم يؤدون بالكاش ولا أحد يستطيع منافستهم.
ولكي نفهم كيف يدافع وزير الصحة عن زملائه أطباء القطاع الخاص من ذوي المصحات، علينا أن نتأمل قراره الذي يعرقل فتح مصحة مجانية للدكتور زهير لهنا، الطبيب الإنساني الذي شارك في إسعاف ضحايا الحرب في سورية.
فقد جاء إلى الدار البيضاء وفتح عيادة مجانية في حي الرحمة موجهة للمرضى الفقراء والمهاجرين، فلم يجد وزير الصحة من شيء يفعله سوى أن أرسل «على سعدو ووعدو» لجنة تفتيشية دون إشعار الدكتور، بحجة أن الوزارة لم تتلق أي طلب بالترخيص للعيادة المجانية وأنه ينافس منافسة غير شريفة الأطباء الآخرين الذين يدفعون الضرائب.
والمصيبة أن طلب الرخصة بفتح العيادة المجانية تم وضعه في مكتب هيئة الأطباء، أما وزارة الصحة فالقانون لا يلزم الطبيب الخاص بطلب رخصة منها لفتح عيادة.
ثم إذا كان الوزير الوردي حريصا على التفتيش فلماذا لا يرسل لجان تفتيشه إلى المصحات التي يموت فيها المرضى بالعرام؟
هدف الوزير واضح، إنه يتحرك لحماية مصالح زملائه في المهنة، أما مصلحة المرضى فلا تهمه، وإلا لكان شجع هذا الدكتور المناضل على فتح فروع لعيادته المجانية في كل المدن في وجه الفقراء والمهاجرين وأبناء السبيل، لأن العمل التطوعي المجاني في الطب هو التجسيد الأمثل لقسم أبوقراط.
إن ما قام به الوزير عندما أغلق مصحة الدكتور زهير المجانية، وعندما وقف ضد قانون منح التعاضديات الحق في فتح مصحات وعيادات وصيدليات، يكشف أنه يشتغل لمصلحة لوبي رأس المال وليس له من ثقافة حزبه الشيوعية سوى الاسم.
ومباشرة بعد انطلاق دراسة المشروع رقم 109.12 بمثابة مدونة التعاضد يوم 5 يناير 2016، تحركت لوبيات مهنيي الصحة للضغط على وزير الصحة ووزير التشغيل والبرلمانيين من أجل حرمان التعاضديات من التوفر على وحدات صحية، على الرغم من أنه مكتسب اجتماعي وصحي راكمه القطاع التعاضدي منذ أكثر من 53 سنة.
فالتعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية أنشأت أول عيادة أسنان تعاضدية سنة 1962 من خلال مرسوم خاص، سنة قبل صدور الظهير المنظم للقطاع، الذي منح للتعاضديات حق التوفر على وحدات صحية وحتى توريد الأدوية، نظرا لاقتناع الحكومة آنذاك بأهمية تقديم التعاضديات لمثل هذه الخدمات الصحية والاجتماعية.
لكن الوزير الاشتراكي جمال أغماني، أثناء فترة توليه لحقيبة وزارة التشغيل، أنسته فخفخة المنصب القيم الاشتراكية التي يتبناها حزبه وقدم مشروعا يخدم الليبراليين وأطباء القطاع الخاص، وبالتالي حرم التعاضديات من التوفر على وحدات صحية بحجة سوء التدبير، عوض الاكتفاء بتعزيز وتقوية آليات الرقابة والحكامة لمنع التسيب والفساد الإداري.
لكن محماد الفراع، أكبر نموذج لسوء التدبير، ما زال يصول ويجول دون أن يسجن رغم الحكم عليه بالسجن وأعيدت محاكمته من جديد في حالة سراح، على الرغم من أنه المتهم الرئيسي في الملف في حين تم اعتقال جميع المتهمين.
وفي الوقت الذي اقترحت الحكومات المتعاقبة مشروعا غير متجانس حاول أعضاء مجلس المستشارين، بعد الرأي الاستشاري للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إعادة الأمور إلى نصابها وتدارك الاختلالات التي تضمنها المشروع، ومن بينها حرمان التعاضديات من التوفر على وحدات صحية في الوقت الذي تم فيه فتح رأسمال المصحات الخاصة أمام فاعلين جدد من خارج فئة الأطباء.
إن ما يحاول أن يتجاهله مسؤولونا وطبقتنا السياسية هو أن خلق وإحداث منشآت صحية واجتماعية من طرف التعاضديات ساهم بشكل كبير في تخفيف العبء عن قطاع الصحة عموما والمستشفيات العمومية خصوصا، في وقت كان من الصعب على الدولة أن توفر للمواطن خدمات طبية في ظل سياسات التقويم الهيكلي مطلع الثمانينات من القرن الماضي.
لكن، وللأسف الشديد، فكل ما يخشاه الوزراء المتعاقبون على الصحة هو تضرر مصالح القطاع الخاص، وهي مناسبة لكي نطمئن مسؤولينا بأن القطاع الخاص لن يتضرر لأن القطاع التعاضدي هو الوحيد الذي يمكنه أن يوفر خدمات طبية في مناطق لا تصل إليها حتى الخدمات الصحية العمومية.
كما أن الخدمات الصحية التي يقدمها القطاع التعاضدي والعلاجات المقدمة غير منافسة للقطاع الخاص، المدلل من طرف مسؤولينا، لأن المنخرط يؤدي اشتراكات شهرية لفائدة التعاضدية. وربما نسي هؤلاء أيضا، في غمرة دفاعهم عن الرأسمالية الطبية، أن الاقتصاد الاجتماعي التضامني، الذي يعتبر التعاضد أحد روافده، يعتبر حاليا الاقتصاد البديل نحو تحقيق التنمية، أو ما يسمى «الطريق الثالث».
ولا بأس أن نذكر برلمانيينا بأن القطاع التعاضدي الفرنسي يتوفر على 434 عيادة أسنان، في الوقت الذي يتوفر فيه التعاضد المغربي على 121 عيادة أسنان فقط، أما بخصوص مراكز البصريات، فنذكرهم بأن النظارات تعتبر من الخدمات الصحية الأساسية، فالتعاضديات الفرنسية تتوفر على 620 مركزا، في حين أن رصيد التعاضديات المغربية لا يتعدى مركزا يتيما في ملكية التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية.
إن البنود التي جاء بها المشروع وعوض أن تحترم الهدف الأول المتمثل في البعد الاجتماعي الذي يطمح إلى تعزيز الحماية الاجتماعية بالمغرب، سيساهم بصيغته الحالية على الأقل في تشريد 1000 أسرة من عائلات موظفي المنشآت الاجتماعية والصحية للتعاضديات، كما سيحرم المنخرطين من تتبع مصير أموالهم بسبب تداخل الاختصاصات بين المنتخب والمدير والوزارات الوصية التي منحت لنفسها، من خلال مشروع القانون، اختصاصات واسعة فجمعت بين المراقبة اللاحقة والسابقة ما قد يؤدي إلى ضعف وشلل التسيير التعاضدي، علاوة على اختصاصات يختص بها القضاء دون أن تكون حتى ملزمة بتعليل قراراتها.
إن الوزارة التي وضعت المشروع لا تزال تخلط بين اختصاصات مدبري التغطية الصحية الإجبارية والتعاضديات التي ينص القانون 65.00 بمثابة مدونة التغطية الصحية، على أن الصندوق يكلف، تحت مسؤوليته، الجمعيات التعاضدية المتألف منها، بإنجاز بعض أو جل المهام الموكولة له بموجب هذا القانون، في حين أن النسخة التي صودق عليها بمجلس المستشارين تشير إلى ضرورة احترام التعاضديات لمقتضيات الفصل 44 الذي ينص على عدم الجمع بين تدبير الأخطار وتدبير الوحدات الاجتماعية.
وحتى لو سلمنا جدلا، بأن نفس التعاضديات لا يمكنها الجمع بين تدبير الأخطار وممارسة عمليات تأمينية وبين تدبير وحدات صحية، فهناك حل كرسته هذه المرة تجارب مقارنة، وخصوصا التشريع الفرنسي الذي عندما أعاد النظر في تشريعاته المتعلقة بالتعاضد في أبريل من سنة 2001 بغية ملاءمتها مع توجيهات أوروبية متعلقة بقطاع التأمين، أدخل مبدأ التخصص الذي يقضي بالفصل بين الأنشطة التأمينية والأنشطة المتعلقة بتدبير مؤسسات تقدم خدمات صحية، وذلك من خلال التعاضديات الفرعية.
وبالتالي، فإن هذا الحل الذي تبناه المشرع الأوربي سيجنب المشرع المغربي القضاء على مكتسبات كرسها دستور المملكة.
لكن عدم اعتماد المشرع المغربي لهذا الطرح يثير عدة علامات استفهام حول مدى حضور حسن النية خلال فترة إعداد المشروع وتشبع واضعيه بتعزيز الدور الذي يلعبه القطاع التعاضدي أو على العكس رغبة في خدمة بعض اللوبيات على حساب المواطن البسيط.
في الواقع، إن مشرع هذا المشروع وضع مقترحات لا تتلاءم مع ثقافة وتسيير التعاضديات بل استوحى بنوده وروح مضامينه من مشروع شركات التأمين، دون مراعاة لخصوصية القطاع ولدوره الاجتماعي.
للأسف إن هذا المشروع يغيب فيه الخط الناظم لجملة من التعديلات، على الرغم من أنه يجب إخراج نص قانوني متناسق ولا يتضمن تضاربا في أحكامه حتى يسهل التطبيق ويتم تجنب الاختلالات وفتح باب التأويلات.
وكمثال على ذلك فقد تم استبدال عبارة «معاش الشيخوخة» بعبارة «منح الإحالة على التقاعد» في عنوان الباب الأول من القسم الثالث في المشروع، كما صادق عليه أعضاء مجلس المستشارين، لكن لم يتم أخذ هذا التعديل بعين الاعتبار في مختلف مواد مشروع القانون، حيث لا يزال الحديث عن الشيخوخة والحال أنه تمت الاستعاضة عنه بعبارة «منح التقاعد».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى