شوف تشوف

الرأي

عندما تسود اللاعقلانية

جلبير الأشقر

قصة رهيبة تلك التي رواها في صحيفة «الغارديان» البريطانية، يوم الاثنين الماضي، مراسلان قاطنان بالهند. هي قصة رجل من الهنود المسلمين، اسمه محبوب علي، عاد إلى قريته شمالي العاصمة دلهي قبل أسابيع، بعد مشاركته في تجمهر ديني بمدينة أخرى. وقد تأثر سكان قريته من الهندوس بصيغة محلية لذلك المرض العقلي الذي تطلق عليه تسمية «نظرية المؤامرة» أخذت تذيع في الهند، تُعزي وباء كوفيد ـ 19 إلى «جهاد كورونا» مزعوم شنه المسلمون على الهندوس. فقد أمسك بضعة مسعورين بمحبوب علي المسكين وانهالوا عليه ضربا بالعصي وهم يسألونه عن سائر المشاركين في «المؤامرة»، ثم حملوه إلى معبد هندوسي وفرضوا عليه فيه إعلان التخلي عن ديانته واعتناق ديانتهم شرطا لنقله إلى المستشفى، حيث تم وضعه في حجر صحي لا يزال ساريا، بالرغم من أن لا أعراض لدى الرجل تدل على إصابته بالوباء.
هذا وقد بدأت الصيغة الطائفية الهندية من «نظرية المؤامرة» تنتشر، عندما أخذت أوساط حزب أقصى اليمين الطائفي الحاكم، «حزب الشعب الهندي» الذي يتزعمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي، تتهم «جماعة التبليغ» المسلمة بأنها مسؤولة عن انتشار الوباء في الهند، بسبب عقدها لمهرجان ديني. وقد اتهمت أوساط الحزب الحاكم أعضاء الجماعة بالتسبب في ترويج الوباء، من أجل تحويل الأنظار عن المساهمة الأعظم بكثير في ترويجه التي شكلها المهرجان الذي حضره حشد بلغ 125.000 شخص، في أواخر شهر فبراير بمدينة أحمد آباد، ترحيبا بزميل مودي في العداء للمسلمين، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وبالرغم من تأكيد العلماء في الهند على أن التهمة الموجهة إلى التبليغيين باطلة لا أساس لها من الصحة (قصدنا علماء الطب والبيولوجيا بالطبع)، أصرت السلطات على العمل بموجب التهمة وكأنها صحيحة، ففرضت حجرا صحيا على أكثر من 27.000 من أعضاء «جماعة التبليغ» في معظم أنحاء الهند. وقد زاد الخيال المرَضي في خطورة التهمة، بحيث أصبح الأمر إرهابا متعمدا أطلق عليه اسم «جهاد كورونا»، وهو يقوم وفقا لرواية المسعورين على بصق «الإرهابيين» في آبار الماء وعلى الأطعمة والمارة في الشوارع بغية إعدائهم بالوباء. ولا عجب من أن تكون التهمة قد تخطت «جماعة التبليغ» بسرعة، لتشمل كافة مسلمي الهند.
طبعا، ليس توجيه أصبع الاتهام إلى إحدى أقليات المجتمع بظاهرة جديدة، ولا هي ظاهرة محصورة بالهند. فحتى في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث تصاعد كره الأجانب، وقد انعكس بالفوز الانتخابي الذي أحرزه «شعبويون» يمينيون كترامب وجونسون، حصلت اعتداءات عنصرية ضد صينيين أو من كانت لهم ملامح وجه اعتقد المعتدون أنها صينية. وقد بقيت الاعتداءات المذكورة محصورة جدا، قياسا بالاتساع الذي بلغته الاعتداءات الطائفية في الهند، ذلك أن تفشي الخرافات يتناسب مع درجة معرفة المجتمعات العلمية، التي تتناسب بدورها بوجه عام مع مستواها الاقتصادي (تكفي المقارنة بين الهند حيث لا يزال ربع السكان أميين، والصين حيث لا وجود للأمية تقريبا).
ولا عجب بالتالي من أن يكون التاريخ حافلا بمثل روايات اللاعقلانية المعاصرة، على غرار اتهام سكان مقاطعة إغريقية لسكان مقاطعة أخرى في القرن الخامس قبل الحقبة العامة بإعدائهم بداء مجهول لديهم، كان مرض الطاعون، وذلك بتسميم خزانات الماء على حد زعم مروجي الاتهام. وهكذا، على سبيل المثال، كانت أيضا حال تفشي وباء الطاعون الذي أحدث «الموت الأسود» في القرن الرابع عشر في أوربا والمنطقة الناطقة حاليا باللغة العربية، تلك المصيبة التاريخية الهائلة التي يقدر عدد ضحاياها بما بين 75 مليونا و200 مليون، بحيث قضت على أكثر من نصف سكان دائرة انتشارها حسب بعض التقديرات. وقد ألقيت تهمة نشر ذلك الطاعون على اليهود وغيرهم من الأقليات، فاستهدفتهم اعتداءات ومجازر مريعة.
هذا وكلما تقدمت معرفة البشر وحلت عقلانية العلوم الوضعية محل لاعقلانية الخرافات على اختلاف أنواعها، كلما تقلص البحث عن أكباش فداء وفعلت الأوبئة الفعل الذي ينبغي أن تفعله عقلانيا، ألا وهو تعزيز التعاضد بين البشر.. وإن كان لقسم من البشر أن يكون مصب غضب عامة الناس في وجه أي من الخطرين الوبائي أو البيئي، فينبغي أن يشتمل هذا القسم على أعداء التعاضد البشري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى