عن كيفية تأجيج الحروب الأهلية للاستفادة من الموارد الطبيعية
كتاب «عالم للبيع.. ملحمة تجار موارد الأرض» لخافيير بلاص وجاك فارشي

لعقود سيطرت مجموعة صغيرة من تجار السلع على الاقتصاد العالمي من وراء الكواليس. يتاجرون، دون علم عامة الناس، بمليارات الدولارات من النفط والمعادن والحبوب يوميًا، مُشكلين بذلك التوازنات الاقتصادية والسياسية. ولتوسيع أعمالهم يدعمون الأنظمة الديكتاتورية بسهولة، ويسافرون إلى ساحات الحروب ويتحايلون على العقوبات الدولية. عندما تتراجع الدول والشركات الكبرى، يتقدم التجار. من هم هؤلاء التجار في القرن الحادي والعشرين؟ كيف يعملون من مكاتب سرية في جنيف أو لندن أو سنغافورة؟ ولماذا يُثير نفوذهم، على الرغم من ضخامة حجمه، قلقنا جميعًا؟ هذا ما يسعى خافيير بلاص وجاك فارشي لتوضيحه في كتاب «عالم للبيع».
يتاجرون في كل شيء
العالم الحديث تحكمه السلع، من النفط الذي يغذّي سياراتنا إلى المعادن التي تشغّل هواتفنا الذكية.
هل تساءلنا يوماً من أين تأتي هذه المواد؟ علينا البدء بالبحث عن أجوبة. في هذا الكتاب يكشف صحافيان بارزان إحدى أكثر المسائل الاقتصادية أهميةً وأقلها تداولاً: أعمال التجار المليارديرات الذين يشترون موارد الأرض ويخزّنونها ويبيعونها. إنها قصةُ حفنة من رجال الأعمال المتعجرفين الذين أصبحوا تروساً لا غنى عنها في الأسواق العالمية، ما أتاح توسعاً هائلاً في التجارة الدولية، ورَبَطَ البلدان الغنية بالموارد، بغض النظر عن فسادها والحروب التي تمزّقها، بالمراكز المالية في العالم. وهي أيضاً قصةُ اكتساب بعض التجار قوة سياسية لا توصف، على مرأى من المراقبين والسياسيين الغربيين، ما ساعد صدام حسين على بيع نفطه، وتأجيج جيش الثوار الليبي خلال الربيع العربي، وتحويل الأموال إلى الكرملين بقيادة فلاديمير بوتين رغم العقوبات الصارمة.
جولة مدهشة عبر أعنف حدود الاقتصاد العالمي، ودليل يعكس كيف تعمل الرأسمالية حقاً.
خافيير بلاص وجاك فاركي من أشهر الصحافيين الذين يغطون قضايا الطاقة والسلع والمؤسسات التجارية. يعملان مراسلَين في Bloomberg News. أجريا مقابلات مع معظم الشخصيات الرئيسية في صناعة تداول السلع، ونشرا الحسابات المالية لعددٍ من هذه الشركات السرية للمرة الأولى، وقدّما، كذلك، تقارير عن النفط والغذاء والحرب من بلدان متنوّعة مثل كازاخستان وساحل العاج وليبيا. هذا الكتاب هو كتابهما الأول.
على مدار العقد القادم سوف ينمو سكان العالم من سبعة إلى تسعة مليارات نسمة. وسوف يؤدي الطلب المتزايد على الموارد الطبيعية، الناتج عن ذلك النمو السكاني الهائل، إلى تشكيل ضغوط غير عادية على أسواق المواد الأولية، كما يمكن أن يؤدي لحدوث صراعات على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، سيما على أساليب الوصول لتلك الموارد وطرق استغلالها والتحكم فيها.
النقطة الأساسية في هذا الكتاب هي أنه، لكي يمكن لنا تقدير التأثير الكامل للطلب المتزايد على الموارد الطبيعية المتعددة، فإن تحليلا يحدد أسس وأنماط التفاعل بينها سوف يكون ضرورياً للغاية. وإذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى الإنتاج المتزايد لمادتي النفط والغاز الطبيعي، في مختلف أنحاء العالم، سنجد أن تلك الزيادة الإنتاجية تمثل خبراً جيداً في حد ذاتها، إذ سوف تحيل إلى الاستيداع تلك التنبؤات المتشائمة التي سادت زمنا حول ما يعرف بـ«نقطة ذروة النفط»، ونفاد الغاز الطبيعي من العالم.
فبفضل التقنيات الحديثة أصبحنا نقرأ عن اكتشافات حديثة للنفط والغاز الطبيعي، وعلى وجه الخصوص النفط الثقيل والغاز الصخري، على نحو شهري تقريباً.. لكن يجب علينا، بهذا الخصوص، أن نعرف أنه لكي نتمكن من استخراج الغاز الصخري هناك حاجة لاستخدام كميات ضخمة من المياه العذبة، وهو أمر يمثل مشكلة كبيرة في واقع الأمر، وذلك نظراً للحاجة الماسة إلى تلك المياه من أجل الاستخدام البشري، خاصة وأن المياه تعتبر مصدراً حيوياً لإنتاج الأغذية التي يحتاجها هذا العدد المتزايد من سكان العالم. وفي المناطق التي تقل فيها كميات المياه العذبة، مثل جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط، فإن التنافس على استخراج المياه والحصول عليها، يمكن أن يتحول لمشكلة خطيرة في المستقبل.
الصراع حول المعادن النادرة
أدى تضاؤل الموارد الطبيعية وتغير المناخ، اللذان يؤديان إلى التصحر وتآكل التربة والجفاف، إلى تفاقم المنافسة على الموارد الطبيعية، ما دفع الرعاة إلى البحث عن مناطق جديدة للسعي للحصول على المراعي لقطعانهم. وأدى الابتعاد عن طرق الهجرة التقليدية والتعدي على الأراضي الزراعية إلى تأجيج التوترات، ودفع الدول إلى البحث عن مصادر دائمة للطاقة والغذاء.
عواصف الأتربة النادرة.. الصراع الصيني الغربي على مستقبل العالم
في الوقت الذي تخوض فيه القوى العالمية الكبرى صراعا على مصادر الطاقة الأساسية، ممثلة في الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) ذات الأهمية الشديدة في الصناعات الثقيلة وإنتاج الكهرباء والطاقة، يبرز صدام آخر أكثر شراسة على معادن الأرض النادرة (rare earth elements) التي باتت عنصرا أساسيا وإستراتيجيا لا غنى عنه في الصناعات التكنولوجية الدقيقة الراهنة والمستقبلية والانتقال إلى ما يعرف بالاقتصاد الأخضر.
قبل ثمانينيات القرن الماضي، لم تكن هذه المواد أو الموارد في دائرة صراع جيو استراتيجي دولي رغم استعمالها المبكر في قطاع البتروكيميائيات والصناعات الإلكترونية والعسكرية، لكن آفاق التوسع في الصناعات الدقيقة ومنخفضة الكربون ضمن ما يسمى باقتصاد المعرفة فرضتها بقوة على خارطة الاهتمام الدولي، وتزامن ذلك مع صعود الصين وهيمنتها على الجزء الأكبر من الإنتاج العالمي للأتربة النادرة.
ومع يقظة الصين ودول أخرى، خارجة نسبيا عن الهيمنة الغربية التقليدية، أضحت هذه المعادن سلاحا تجاريا مهما أيقظ هواجس الغرب، مع احتدام التنافس التجاري والاقتصادي مشوبا بالاختلاف الأيديولوجي، وصنفت هذه المعادن لاحقا ضمن مرتكزات الأمن القومي في الولايات المتحدة ودول أخرى. كما أصبحت الصين، مع طفرتها الصناعية والتكنولوجية الكبرى، أكثرا حرصا في حماية مخزونها الاستراتيجي منها.
وكان آخر فصول هذا الصراع إعلان الصين، في الرابع من يوليوز 2023، تقييد صادرات معدني «الغاليوم «(Ge) و«الجرمانيوم» (Ga) من الأول من غشت «من أجل حماية المصالح القومية»، وهو ما انتقدته بشدة المفوضية الأوروبية والولايات المتحدة، وتصنف هاتان المادتان ضمن ما يعرف بالمعادن الحرجة (critical minerals) التي تتضمن العشرات من العناصر المعدنية بينها الأتربة النادرة.
وتنتج الصين 80 في المائة من إمدادات العالم من هاتين المادتين، وفقا لتقرير المفوضية الأوروبية، في حين يستورد الاتحاد الأوروبي 27 في المائة من احتياجاته من الغاليوم و17 في المائة من الجرمانيوم من الصين.
وفي عام 2010، مثلت أزمة المعادن النادرة بين الصين واليابان ثم الدول الغربية مؤشرا على أهمية هذا العنصر الجديد في الاقتصاد العالمي، فعندما أوقفت بكين صادراتها إلى اليابان بسبب نزاع على جزر «سينكاكو/ دياويو» بين البلدين -وكانت خفضت التصدير عام 2006- تعرضت لانتقادات وضغوط شديدة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ورغم رفع الحظر الصيني لاحقا، اتجهت اليابان -التي كانت 27 من كبريات شركاتها آنذاك تعتمد على معادن الصين- إلى تعزيز تعاونها مع فيتنام لاستخراج وتعدين هذه الأتربة، وأصبحت فيتنام حاليا من أهم الدول المنتجة لها.
صراع جيوسياسي
انطلاقا من الأهمية الشديدة لهذه المواد، تشكلت خريطة عالمية لمكامن ومناطق إنتاجها واستهلاكها وتصديرها، وأصبحت الاحتياطات الاستراتيجية منها أهم من الوقود الأحفوري في حد ذاته. فالعالم يتجه -ولو بخطى وئيدة- نحو ما يسمى الاقتصاد الأخضر والرقمي، وتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة الملوثة، وتعد هذه العناصر النادرة عاملا مهما في أسباب هذا التحول. وتزامن تزايد الاعتماد على عناصر الأرض النادرة مع اقتراب حقبة طويلة من سيطرة واحتكار الدول الغربية لهذه الموارد من النهاية، فلم تعد سلاسل الاستكشاف والإنتاج والتوريد والمنافسة محصورة على البلدان الغربية (الولايات المتحدة وبدرجة أقل بلدان الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا وأستراليا) بصفتها القوة الاقتصادية العالمية المهيمنة على قواعد التجارة العالمية والاقتصاد العالمي لعقود مضت.
لم يعد الابتكار والإنتاج الصناعيان أيضا من الاختصاصات الحصرية لاقتصادات هذه الدول، التي استفادت من مرحلة الاستعمار وما بعدها، فطموحات الصين في ما يتعلق بالتصدير، وسيطرتها على سلاسل الإنتاج والتوريد الرئيسية منذ التسعينيات غيرت اللعبة.
وفضلا عن ذلك، فإن مبادرة الحزام والطريق الصينية -وهي خطة استثمار للبنية التحتية والتجارة مع الدول المشاركة في جميع أنحاء إفريقيا وأوراسيا وأمريكا الجنوبية- تتحدى النماذج الغربية السابقة للتجارة والاستثمار والتعاون، ويمكن أن نضيف إليها مجموعة بريكس، التي هي في طور التوسع ككتلة اقتصادية وسياسية، أو منظمة شنغهاي للتعاون، والصين عضو أساسي في كلتيهما.
ولا تنفصل الصراعات الدولية، وخصوصا بين القوى الكبرى، عن المصالح الجيوسياسية والنفوذ الذي يرتبط بمدى توفر موارد الطاقة والتعدين بأنواعها وخطوط إمدادها وسهولة استخراجها ونقلها، وفي هذا السياق جاءت الحملات الاستكشافية ثم الاستعمارية في القرن الـ17، والحروب الأخرى، ولعل آخرها الحرب في أوكرانيا واستعمال سلاح الغاز والنفط، (تم استثناء استيراد اليورانيوم المخصب من روسيا) والحروب التجارية الناشئة مع الصين حول المعادن النادرة وأشباه الموصلات، والتوتر حول تايوان، والبحث عن المجال الحيوي في إفريقيا وغيرها.
ومن جهة أخرى، ينصب اهتمام تجار الموارد الطبيعية هذه الأيام حول موارد القطب الشمالي، الذي يمر بتحولات كبيرة ناجمة عن تزامن تطورين مهمين. الأول الذوبان المتسارع للجليد، ما سمح بفتح ممرات النقل والتجارة واستغلال الموارد الطبيعية الضخمة، والثاني تصاعد التنافس الاقتصادي والصراع الجيوسياسي على موارد القطب الشمالي خاصة بين الصين وأمريكا وحلفائهما.
وتشكل منطقة القطب الشمالي نظاماً بيئياً جيوسياسياً واقتصادياً جديداً للدول المعنية مباشرة، مثل روسيا وكندا وأيسلندا والنرويج والولايات المتحدة (عبر ألاسكا) والدنمارك (عبر غرينلاند). وباتت هذه الدول في قلب التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الحاصلة.
يوفر انخفاض الغطاء الجليدي فرصاً اقتصادية واعدة، تشمل ممرات شحن جديدة مثل الممر الشمالي الغربي (كندا) وطريق بحر الشمال (روسيا). ويوفر الفرصة، كذلك، لاستغلال احتياطيات مهمة من الموارد الطبيعية بما في ذلك الهيدروكربونات والمعادن. ويبدو أن هذه التطورات مقدر لها أن تعيد تشكيل ديناميات التجارة العالمية، وأن تحقق فوائد اقتصادية كبيرة لبلدان المنطقة. فالوصول إلى موارد طبيعية ضخمة سيعزز أمن الطاقة والتنمية الاقتصادية.
عززت روسيا، خاصة منذ بداية الصراع في أوكرانيا وفرض العقوبات عليها من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، أسطولها من كاسحات الجليد النووية. وذلك بهدف فتح طرق بحرية جديدة في القطب الشمالي لنقل أسرع للموارد، وخاصة الهيدروكربونات. وسارعت، كذلك، لأخذ زمام المبادرة في استغلال الهيدروكربونات والموارد الطبيعية الأخرى، وبالتالي زيادة نفوذها الجيوسياسي في المنطقة.
إن استغلال الموارد الهيدروكربونية في الأراضي الجديدة المنكشفة، إضافة إلى الموارد الموجودة في منطقتها الاقتصادية الخالصة في القطب الشمالي، سيضمن لروسيا أمن طاقة لا ينضب تقريبا. وعلاوة على ذلك، وبفضل أراضيها الشاسعة البكر وغير الملوثة، سوف تصبح روسيا أحد المنتجين القلائل للغذاء في العالم. الأمر الذي يعزز نفوذها الجيوسياسي كمورد رئيسي للغذاء على الساحة الدولية. في هذا السياق، سيخضع الاقتصاد الجغرافي لروسيا لتغييرات كبيرة ومن المرجح أن تكون الإدارة الفعالة لهذه الموارد واستغلالها مفتاح نجاح روسيا أو فشلها كدولة مؤثرة في الجغرافيا السياسية العالمية.





