الرأي

في الطريق إلى وادي المخازن

يعرف سائقه إلى أين يسير. يفتح الباب الخلفي للسيارة فيتقدم الزعيم علال الفاسي وبيده كتاب، يستوي على مقعده ويخاطبني بلكنته الفاسية: «حسنا أنك اخترت أن تجلس في المقدمة، إن الشباب كانوا دائما في الطليعة». أحييه بكل وقار واحترام. ففي حضرة المقامات الكبيرة لا أفضل من الإصغاء.
هي الطريق لا تحتمل الصمت، كما ضجر الثرثرة التي بلا معنى. يقول علال الفاسي وهو يلقي بنظره إلى الربوع التي كستها خضرة يانعة: هل تعرف منطقة الغرب جيدا؟ فأرد على استحياء: نعم عرفتها من خلال قصيدتكم الشعرية التي عنوانها «أولاد خليفة». تلك التي جاهر فيها علال الفاسي بمآسي المزارعين الصغار الذين استولى الإقطاع على فدادينهم وشردهم من بيوتهم. ولم يجدوا بديلا من حمل العصى والهراوات، دفاعا عن أرضهم وأعراضهم.
كانت مأساة حقيقية سقط فيها ضحايا جراء تدخل القوات التي ناصرت الإقطاعيين، فيما كانت نشرات الأخبار الرسمية تتحدث عن الإصلاح الزراعي، وعن نموذج فريد من «الاشتراكية» التي قيل إن الدولة بدأت تنفذها «لإنصاف الكادحين المظلومين». يرد علال الفاسي بأن الأرض هي محور كل نضال، وأن الفكر التحرري يرتكز في أساسه على صون كرامة وحرية الإنسان في أرضه وعرضه وإيمانه ومستقبله.
أدرك الآن لماذا صاغ الزعيم الاستقلالي فكرة «الأرض لمن يحرثها» وجعل منها برنامجا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا متكاملا. ولماذا وضع الدفاع عن وحدة الأرض والإنسان في أعلى المراقي الفكرية. وظل حريصا على عدم «تفويت إحياء المناسبات الوطنية والتاريخية التي تعكس صمود المغاربة دفاعا عن الأرض والهوية».
كنت برفقته إلى العرائش، حيث دأب على رئاسة مهرجان خطابي حاشد في ذكرى معركة وادي المخازن. وإنها لعادة جميلة أن يزرع الزعيم على ضفاف تلك الموقعة بذرات الوعي بتاريخ البلاد. أستحضر من ضمن ما قاله أن التاريخ ليس أحداثا ووقائع منفصلة عن بعضها، فهي تبدأ في زمن وتنتهي عند آخر. وما يبدو في شكل شتات يستجمع قواه وقوانينه بمرور الزمن. وإني لأغبط كل أولئك الذين يجدون متسعا من الوقت لتسجيل حواشي الأيام العابرة، ويعودون إليها كلما ادلهمت أجواء وأمطرت سحابات.
لا يعادل شغف علال الفاسي بالقراءة غير قدرته على التأمل والاستيعاب وجدل الإقناع. ونحن على متن السيارة، التلميذ والأستاذ، العالم والمتعلم، استوقفتني ملاحظة رمى بها فجأة. قال علال الفاسي: ماذا دها هؤلاء وأولئك الشباب، إنهم يكتبون عن ثورة أليندي في الشيلي وعن حرب فيتنام، ولا يخصون ثورة عشرين غشت بنفس الاهتمام.
كان قلبه يعصره الألم. لكنه بدا أكثر تفهما للموجة الجديدة التي كانت تكتسح الجامعات والمنتديات الفكرية والثقافية. لذا حين سأله طالب من كلية الحقوق إن كان واردا أن يصبح ماركسيا في فكره ونظرته، أجاب: «أنا علال الفاسي، ولست نسخة من أي أرض أخرى غير المغرب». كل الحق معه، وأي أرض هاته التي دارت على ضفاف أوديتها وهضابها وسفوحها وجبالها وبحورها وقراها ومدنها، كل تلك الملاحم التي صنعت تاريخ بلاد اسمها المغرب الأقصى.
في الطريق إلى العرائش كان علال الفاسي يخص كل محطة بعناوين نابهة، استحضر مواجهات سوق أربعاء الغرب، في السنوات الأولى لاستقلال البلاد، وقبلها رأى أن معركة المغرب من أجل اقتلاع القواعد العسكرية الأجنبية كان لها صداها الواسع. والتفت عند محطة عرباوة مذكرا بأن السلطات الإسبانية حولتها إلى مركز حدود وهمية، كما فعلت في مناطق في الشمال والجنوب وشرق البلاد.
حديث الذكريات أنساه فتح كتابه الذي وضعه إلى جانبه. ابتسم وهو يردد: إذا أسعفنا الإخوة في العرائش بعض الوقت بعد صلاة العشاء، سأخصه لاستكمال قراءة الكتاب، ثم سألني عن آخر ما قرأته. توجست قول الحقيقة، فقد كانت أفكار الزعيم الصيني ماوتسي تونغ تهيمن على المشاعر والقراءات في تلك المرحلة. واستدركت بأني أرافق الدكتور مصطفى محمود في تأملاته الفكرية، فقد كان متميزا ومنفتحا.
بلهجة لا تخلو من النصيحة الأبوية، قال الراحل علال الفاسي: «لا تنس أن تزور الحاج ناصر. فقد وعدته بأن أسدد مقتنياتك من الكتب، وأنتظر منك أن تقدمها في شكل قراءات بين الفينة والأخرى».
أمام حشود غفيرة قال علال الفاسي كلمته، مذكرا بأن قوة المغرب في تمسكه بعقيدته الإسلامية وانتمائه القومي، وأن ضعفه لا يقع إلا عند التفريط في مقومات وجوده. أضاف أن المغاربة لم يحاربوا الاستعمار من أجل أن تنفرد فئة قليلة بخيرات البلاد وسلطتها. وعاوده النداء من أجل الرجوع إلى الخيار الديمقراطي السليم في تنظيم العلاقات والاختصاصات والمسؤوليات.
في السادس عشر من غشت 1972، تذكرت نصيحة الأستاذ الزعيم، دفعت إلى المطبعة بنسخة من «نداء القاهرة»، بيد أنه لم يصدر في العدد الموالي، لأن الجريدة لم تصدر. فقد حجبت كل الصحف، لأن الطائرات المغيرة التي تعمدت تنفيذ محاولة انقلابية ثانية، لم تترك لسكان الرباط فرصة التطلع إلى السماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى