حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأي

في الفولكلور والموروث وإهمالهما

عبد الإله بلقزيز
لدى أكثر المتعلمين منا، وخاصة من الذين تجتذبهم تيارات الحداثة والفن، نظرة احتقارية إلى الفولكلور؛ فهذا، عندهم، صنو الموروث العامي، الذي لا يناسب ذائقةَ اليوم، ولا يشبع نهم التجديد وتأسيس لغة جديدة في التعبير الأدبي والفني. تكاد هذه النظرة التحقيرية تكون سمة عامة لدى المهجوسين بالتجديد والحداثة في العالم كله، وليس عندنا نحن العرب فقط. قلة قليلة منا تعشق القديم وتتذوقه: في الشعر والنثر والمعمار والطبخ والموسيقى والغناء. وقلة من الدارسين من تقاوم تلك النظرة التحقيرية إلى الموروث والفولكلور، فتبحث في هذا عن التعبير الثقافي الخاص متحررة من أي معيارية. والحق أن الفولكلور نفسه متعدد وليس واحدا، وهو متفاوت المراتب الجمالية، وبالتالي تختلف درجات تذوقنا مادته باختلاف مستوياته الجمالية، وباختلاف ذائقتنا والمخزون الثقافي والجمالي لدى كل منا. الأنثروبولوجيون وحدهم يقبلون على الفولكلور من غير تحفظ؛ ينحازون إليه كموضوع، من دون شروط. وهذا أمر محمود ومنسجم مع نظرتهم إلى الثقافة بوصفها مجموع تعبيرات الناس عن ذواتهم ورؤاهم إلى العالم والأشياء. ولكن المشكلة تبدأ حين يتحول الانحياز إلى موضوع افتتانا به وانغلاقا فيه، فيقع إخراج المادة الفولكلورية من حيزها الموضوعي: التاريخي والتعبيري والجمالي وإلباس أذواقنا إياها! هكذا تتحول الأنثروبولجيا، من حيث لم تقصد، إلى خصم للتاريخ.
والحق أن الفولكلور ليس واحدا في ميزاننا، وعندي أنه ينبغي أن نتجنب تنميطه في نمط واحد؛ إذ هو ليس حسنا كله وليس سيئا كله أو، قل، ليس جميلا كل الجمال ولا عديمه؛ فيه من هذا ومن ذاك.. يصدق ذلك على الموسيقى والغناء، كما يصدق على اللغة والشعر، واللبس والطبخ والأثاث…إلخ.
فارق كبير يقوم بين أن نفترض الفولكلور ناجزا ونهائيا، وننصرف إلى استهلاكه، بشروطه الثقافية والجمالية كما يفرضها هو علينا، و(بين) أن نأخذه من حيث هو مادة نهائية في زمنه، ولكن من حيث هو مادة أولية قابلة للاشتغال بها وإعادة إنتاجها في الحاضر. في الحالة الأولى من الافتراض ننسى أننا إذ نسلم بنهائية الموروث والفولكلور ونطفق نستهلكه، لا نفعل – حينها – سوى أننا نرتضي الانتماء إلى زمنه، ونكتفي بذلك. وما من مشكلة عندي في أن يميل المرء منا إلى مثل ذلك الانكفاء، ولكن فقط من أجل أن يفهم ويقترب أكثر من المنتوج القديم ويستشعره من الداخل. أما أن يسكن فيه وينسكن به فأمر آخر، لأنه إلى الانكفاء المغلق والمتشرنق يصير أقرب. وحين نميل إلى افتراضه مادة أولية قابلة للتصنيع، نعترف له بإمكان ديمومته في الزمن، ونضع على عواتقنا مسؤولية تصييره كذلك عن طريق الاشتغال الجاد لتجديد الشعور به، والتذوق له. إننا نعيد تملكه من خلال استقدامه إلى حاضرنا، أو قل من خلال جعله أثرا حاضرا. هكذا لا يكون الموروث أو الفولكلور حيا حين نذهب إليه في زمنه، بل يصبح كذلك (أي حيا) حين نأتي به إلى زمننا فنمنحه – بهذه العملية من الاستقدام وإعادة البناء – فرصة لأن يكون له زمنان، بل أزمنة عدة بعدد حالات الاشتغال به. وهكذا، أيضا، يصبح أثرا حيا، متجدد الحياة، في التاريخ ويتوقف عن أن يبقى مجرد مادة فولكلورية أو متحفية نستخدمها لإرواء الظمأ للنوستالجي فينا.
ما أثرى ثقافتنا العربية بموروثها وفلكلورها: في الفنون وآداب اللسان، ولكن ما أقل – من أسف شديد – من اعتنوا من أبنائها المعاصرين بهذه الكنوز المذخورة فنفضوا عنها الغبار، وتعهدوها بالرعاية والدرس العلمي وإعادة التصنيع على نحو يليق بها ويليق بهم. فعل الغربيون ذلك بميراثهم، وهم أهل حداثة، وأما نحن فأهملناه واطرحناه أو استهلكناه على حاله الأولى من غير بروتوكول جمالي وعلمي يتجدد به! وعندي أن من لم يستثمر موروثه، أحسن استثمار، لا يستحقه.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى