قصص الجيل الأول المؤسس للقوات المسلحة الملكية
تأسيس الجيش الملكي في سياق يغلي بالتحولات

يونس جنوحي
«يوما 14 و15 ماي كانا معا محطة لميلاد القوات المسلحة الملكية، الجيش الملكي تأسس في سياق وطني شائك. بأمر من الملك الراحل محمد الخامس، وتفويض إلى ولي العهد الذي أشرف على كل التفاصيل بنفسه، تأسست القوات المسلحة الملكية لكي تضم أسرة قدماء الجيش الفرنسي الذين كان عددهم يبلغ 15 ألف مجند سابق من مختلف الرتب، بالإضافة إلى 10 آلاف آخرين حاربوا في صفوف الجيش الإسباني، ينضاف إليهم جميعا 5000 مقاوم انضموا إلى النواة الأولى للمؤسسة العسكرية.
كان ضم كل هؤلاء تحت سقف إدارة الأركان العامة للجيش، قبل أن يتفرع عنها الدرك الملكي، وبقية القوات، تحديا كبيرا لإشراك الجميع تحت راية القوات المسلحة.. وهذه هي الكواليس..».
+++++++++++++++++++++++++++++++
أجواء مغرب على صفيح ساخن قبل تأسيس الجيش
منذ 16 نونبر 1955، تاريخ عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، والفرقاء من سياسيين وقدماء المقاومة، في صراع لا يهدأ إلا ليتقد مجددا. هذه الأجواء أثرت على أول حكومة مغربية ترأسها البكاي ولد امبارك الهبيل، إذ إن أحد أسباب العصف بهذه التجربة الحكومية، خلال محطتيها، الأولى والمُعدلة، كان هو الصراع بين السياسيين وقدماء المقاومة.
كان المغرب يتوفر على قرابة 15.000 شخص (وهو رقم ضخم بمعايير تلك الفترة) من المجندين المغاربة العائدين من الجيش الفرنسي، وكلهم شهدوا الحرب العالمية الثانية، وشاركوا فيها وأسهموا في حسم النتيجة لصالح الحلفاء، وطرد النازية من فرنسا.
كان تدبير مستقبل هؤلاء الجنود من الملفات الحارقة فوق مكتب الملك الراحل محمد الخامس. وقد أوكل إلى ولي العهد الأمير مولاي الحسن، منذ عودتهما من المنفى، هذا الملف لكي يتعامل معه، خصوصا وأن البكاي نفسه كان من بين المجندين السابقين في صفوف الجيش الفرنسي، ويعرف زملاءه جيدا، كما يعرف عواقب عدم استفادة المغرب من كل تلك الكفاءات العسكرية.
إلى جانب هؤلاء المجندين السابقين في صفوف الجيش الفرنسي، كان هناك 10.000 مغربي آخرين سبقت لهم الخدمة في صفوف الجيش الإسباني وعاشوا ويلات الحرب في إسبانيا، واستخدمهم الجنرال فرانكو ليضرب خصومه بيد من حديد، حتى أن أرشيف إسبانيا اليوم ينسب إلى الجنود المغاربة في صفوف جيش فرانكو، الفضل في القوة التي أبان عنها الجنرال عند حكمه إسبانيا وتدبير معاركه الداخلية مع معارضيه.
وبالإضافة إلى هذين الفريقين معا، يوجد 5000 مغربي مدربين جيدا على السلاح، اشتغلوا في صفوف جيش التحرير المغربي وكلهم مقاومون ساهموا في استقلال المغرب، وكان وجودهم خارج الحياة العسكرية مُقلقا.
من بين هؤلاء المقاومين السابقين، أشخاص اتُهموا بالتسلل إلى المقاومة، وهناك من اتُهموا بتصفية زملاء لهم، وحمل السلاح في الشارع العام. ولهذه الأسباب كلها، كان لا بد أن يتم تدبير ملفهم في أقرب وقت، وإدماجهم في الجيش الملكي.
يوم 14 ماي، جرى الإعلان رسميا عن إنهاء ترتيبات تأسيس الجيش الملكي المغربي. ويوم 15 ماي، أنشئ حفل كبير للإعلان عن هذا الحدث.
الأسابيع التي تلت التأسيس، كرس فيها ولي العهد الأمير مولاي الحسن نفسه لكي ينهي ملف إدماج قدماء المقاومة في صفوف الجيش الملكي. كان الهاجس الأول للدولة، سحب السلاح الذي كان متفرقا في شوارع المدن الكبرى، خصوصا الدار البيضاء، الرباط ومراكش، حيث إن الأحداث التي عرفتها هذه المدن، أكدت بالملموس أن السلاح الذي بقي منتشرا بين صفوف قدماء المقاومة، لا يزالون يحملونه، سوف يشكل مشكلا أمنيا كبيرا في المستقبل. وهكذا عُهد إلى إدارة الأمن بجمع السلاح من كل أعضاء المقاومة السابقين، وإدماج النشطاء منهم في صفوف الجيش الملكي.
جنرالات من زمن الجيل الأول للقوات المسلحة
هذا الجنرال اشتغل في الجيش الفرنسي، إنه الجنرال الكتاني. خاض الحرب العالمية الثانية، وحاز ميداليات الحرب وسرق الأضواء من الفرنسيين أنفسهم. أتقن اللغة الفرنسية، وكان يختلف عن أغلب الذين خدموا في صفوف الجيش الفرنسي، فقد كان مستواه الدراسي يؤهله لكي يصبح مسؤولا كبيرا في الجيش، لولا أنه اختار الانسحاب في أزمة العرش سنة 1954، عندما فشلت فرنسا في الحفاظ على بن عرفة على العرش. فقد لجأت الحكومة الفرنسية إلى خدمات الجنرال الكتاني، وطلبت منه أن يشارك في عضوية مجلس العرش، وتعيين الحكومة لتجاوز مشكل رفض المغاربة لابن عرفة سلطانا. لكن الجنرال، بحكم تجربته الكبيرة مع الفرنسيين، أدرك الاتجاه الذي تمضي فيه الأحداث، ورد على وزير الخارجية الفرنسي قائلا إنه تعلم الحياة العسكرية وأساسيات قوانين الجيش، ولا دراية له أبدا بالحياة السياسية والمدنية، وسحب نفسه بهدوء من قلب العاصفة التي أراد الفرنسيون أن يلقوا به في خضمها.
عندما وصل الخبر إلى الملك الراحل محمد الخامس، عقب عودته من المنفى، استدعى الجنرال الكتاني، وأوكل إليه مهمة المشاركة في إدارة مؤسسة الجيش، بعد تأسيس القوات المسلحة، وكان بمثابة نائب لولي العهد الأمير مولاي الحسن، الذي عينه والده رئيسا لأركان القوات المسلحة.
من الجنرالات الذين تكلفوا بمهام في مؤسسة الجيش، قبيل تأسيسها، الجنرال إدريس بن عمر الذي برز اسمه أكثر في أحداث حرب الرمال أكتوبر 1963. هذا الجنرال عرفت عنه الصرامة في التكوين العسكري، وكان إلى جانب الجنرال الكتاني، مسؤولين عن أفواج الخريجين، وتكوينهم وفق النظام العسكري الذي تدربا عليه بدورهما في صفوف الجيش الفرنسي.
في البداية، كانت القوات المسلحة الملكية وقت تأسيسها تضم مختلف القوات، وتفرع عنها لاحقا الدرك الملكي، الذي تكلف به ميمون أوحفصة في البداية، وهو بدوره قد قضى فترة مهمة في صفوف الجيش الفرنسي، ثم القوات المساعدة.
عندما كانت مؤسسة القوات المسلحة تضم مختلف القوات، فقد كانت أسماء عسكرية تتكلف بالإشراف على تدريب مختلف الوحدات، منها الطيران، حيث تكلف الكولونيل عبد السلام بوزيان برئاسة مدرسة مكناس العسكرية لتكوين الجيل الأول من الطيارين في ظل الاستقلال، فيما كانت بعض الأسماء العسكرية الأخرى مثل الكولونيل المذبوح والجنرال أوفقير، من جيل المكونين بفرنسا الذين ابتعدوا عن مؤسسة الجيش، وشغلوا مناصب في الدولة.
جدير بالذكر أن القوات المسلحة الملكية، بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني في سنوات حكمه الأولى، قبل 1965، دخلت في صلب الإدارات الرسمية. فقد تكلف الجنرالات بشغل منصب العامل في عدد من الأقاليم، لضبط الأمن في فترات الارتباك الأمني بعد الاستقلال، حيث تكلف كل من الكولونيل المذبوح، والجنرال إدريس بن عمر، كأبرز اسمين مشاركين في هذه التجربة، بتدبير الأمن في عدد من الأقاليم، وتسييرها بعقلية عسكرية، قبل أن يقرر الملك الراحل الحسن الثاني إعادة الأسماء العسكرية إلى قيادة الأركان العامة.
++++++++++++++++++++++
كلمة ولي العهد خلال تأسيس القوات المسلحة وكواليس الإعداد قبل 69 سنة
لم يُكتب الكثير عن لحظات تأسيس القوات المسلحة الملكية، ولا الشخصيات التي كانت حاضرة لهذا الحفل الذي أعلن فيه عن تأسيس الجيش المغربي. يوم 14 ماي 1956، شهرا واحدا بعد توقيع وثائق استقلال المغرب رسميا عن فرنسا، كان يوما مشهودا، والذين حضروا أجواءه، كانوا من النوع الذين لا يكتبون مذكراتهم. فقد كان أغلبهم عسكريين.
«كانت فرحة المغاربة حرفيا، فرحتين. الأولى يوم 2 مارس عندما نقلت الصحف صور توقيع المغرب مع فرنسا على الاستقلال، وإعلان المغرب رسميا دولة مستقلة، والفرحة الثانية عند إطلاق خبر تأسيس قواتنا المسلحة». هذه العبارة، وأخرى غيرها، لكن بنفس المضمون، تداولتها جل الصحف العربية الصادرة في ذلك التاريخ.
هنا، ننقل شهادة نادرة، نقلتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في عددها السنوي احتفاء بذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية. وهذه الشهادة تكشف كواليس الإعداد للحفل، وحضور العسكريين قبل 14 ماي للسلام على الملك الراحل محمد الخامس، يترأسهم ولي العهد الأمير مولاي الحسن. ويضم أيضا الكلمة التي ألقاها ولي العهد أمام الذين حضروا حفل الإعلان عن تأسيس القوات المسلحة الملكية:
«وعندما انفرجت الكربة وأذهب الله الحزن عن المغرب وحررت البلاد من قيود الحجر والوصاية، كان من بين البرامج التي نص عليها بيان ثاني مارس 1956، إنشاء جيش مغربي تحت قيادة مغربية أصيلة.
فأسس محمد الخامس قدس الله روحه النواة الأولى للقوات المسلحة الملكية، وأسند لولي عهده العسكري المحنك رئاسة أركان الحرب العامة، لطول ما خبر من مشاكل الشعب ولكثرة ما عالج من الأمور، ولما عرف من الوسائل وبكفاية ما تزود به للقيادة والتسيير والتدبير.
فاستدعى سموه على الإثر الضباط المغاربة وخاطبهم قائلا: «ابتداء من اليوم قد أصبحتم تحت قيادتي، وسيكون قائدكم الأعلى عادلا ورحيما، لكنه لا يقبل أي إخلال بواجبات الامتثال والانقياد والأدب، فأنتم أمل جلالة السلطان وأمل الشعب وأمل الأمة المغربية، ويقضي عليكم الواجب أن تكونوا أهلا لهذه الأمانة».
بعد عشرين يوما من إعلان الاستقلال، قدم سموه وحدات القوات المسلحة الملكية إلى جلالة الملك، بصفته القائد الأعلى. وبعد أن أقسم الجيش أمام القائد الهمام بالإخلاص لله والوطن والملك، سلم صاحب الجلالة والمهابة علم القوات المسلحة الملكية إلى سمو ولي عهده ورئيس أركان الحرب. فكان هذا اليوم التاريخي غرة في تاريخ كفاح الشعب والعرش، من أجل الحرية والكرامة، حيث إنهما اقتطفا فيه ثمار جهادهما المبارك. فقال أول رئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية بالمناسبة: «إن انشاء هذه النواة من الجيش تقيم لك – أيها الشعب المغربي- ولغيرك البرهان على أن التاريخ لا يُخَوِّنُ أولئك الذين ظلوا أوفياء لمثلهم الوطنية السامية، ووجوده أيضا يعينك على المحافظة على أمتك وأمن عائلتك ورفاهية أحفادك.. وإن التأثر الذي يخالج نفوسنا حينما تمر أمام أعيننا الراية المغربية وبنود الوحدات العسكرية، ليبرهنان لنا جميعا على أن المغرب لم يفقد قط خلال تاريخه المجيد قيمته كأمة عظيمة».
شهادة نادرة لمصور أمريكي حضر لحظات تأسيس الجيش الملكي
في الحفل الذي حضره الملك الراحل محمد الخامس، يوم 14 ماي 1956، لم تُوجه دعوات إلى الشخصيات الأجنبية لحضور الحفل، لكن بالمقابل كان بعض «أصدقاء المغرب» من الضيوف الذين حلوا بالمملكة في ذلك الوقت، مدعوين بفضل صداقاتهم إما مع شخصيات مقربة من ولي العهد الأمير مولاي الحسن، أو من شخصيات مغربية أخرى.
أحد هؤلاء، هو المصور الصحافي الأمريكي «توماس مكافوي»، الذي عمل مع أشهر المجلات الأمريكية، خصوصا مجلة «Life»، ونقل صورا من المغرب لأحداث مختلفة، أهمها عودة السلطان محمد بن يوسف من المنفى. وما زالت بعض صور أرشيف هذا المصور الصحافي، الذي حضر أهم أحداث القرن العشرين، تساوي ملايين الدولارات.
حضر «توماس» حفل تأسيس القوات المسلحة الملكية، وقد كتب وقتها مراسلة مقتضبة إلى مجلة «شيكاغو تريبيون»، جاء فيها:
«في هذا الجو الربيعي الذي يكتسي مدينة تاريخية شرقية مثل الرباط، لا يمكن للمرء أن يقاوم رغبة حضور واحد من التجمعات الكبرى، التي تم فيها الإعلان عن تأسيس الجيش المغربي.
بحضور ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، كان الحفل قد ازداد أهمية، ليس فقط للشخصيات التي حضرته، وإنما بالنسبة إلى الذين سمعوا عنه أيضا.
عسكريون مغاربة، كانوا مزهوين وهم يسيرون بين المدعوين بلباسهم العسكري الأنيق، ويتحدثون مع بعضهم البعض باللغة الفرنسية. في ما كان فريق آخر، يكتفون بالجلوس إلى الكراسي وتأمل المشهد، وترى أحدهم بين الفينة والأخرى ينظف ياقة قميصه، أو شارته المعدنية ويحرص على لمعانها طيلة مدة الحفل.
سألتُ أحد الشباب عن انطباعه عن الحفل، وكان هذا رده بالفرنسية: «إننا اليوم نعيش مرحلة مفصلية في التاريخ. الإعلان عن تأسيس قواتنا المسلحة إعلان عن دخول المغرب مرحلة جديدة. نتشرف بأن نكون من الشباب الذين سيُخلصون بدون شك لجلالة الملك سيدي محمد، ولولي العهد الشاب الذي لا شك أن رؤيته العصرية لتنظيم الجيش، سوف تنعكس علينا نحن المجندين». نبرة الحماس لم تغادر هذا الشاب طيلة مدة حديثه مع بعض زملائه، وكان من بينهم من أدوا الخدمة العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، بينما بعضهم كانوا يكتفون بالإيماء فقط، دون أن تصدر عنهم أي ابتسامة. لكن سرعان ما ابتسموا بمجرد ما أن رأوا ولي العهد بلباسه العسكري، وهو يلقي التحية بنفسه على مجموعات من الجنود، دون أن يفارقه بعض العسكريين الذين كانوا في سن متقدمة. وفي اللحظة التي كانوا يتجهون فيها برفقة ولي العهد إلى المقدمة بجوار المنصة، كان بعض الشباب يتهامسون في ما بينهم».
شهادة هذا المصور الصحافي، الذي غطى الحروب، ومحطات أوروبا وأمريكا المفصلية، تعد واحدة من أندر الشهادات التي توثق لأجواء حفل تأسيس القوات المسلحة الملكية.
ولا شك أنه كان يقصد بالأشخاص المتقدمين في السن، كلا من الكولونيل المذبوح، والجنرال الكتاني، والجنرال إدريس بن عمر.. هؤلاء كانوا لا يفارقون ولي العهد خلال تلك المرحلة.
من يكون عرّاب «الأركان العامة».. قلب الجيش الملكي النابض
كثير من الشخصيات العسكرية أجمعت على أن «ميمون أوحفصة»، الذي اختطفه الموت مبكرا، يستحق أن يكون عراب «الأركان العامة». صحيح أنه لم يكن في أعلى هرم المؤسسة العسكرية فور تأسيسها، لكنه كان الثالث أو الرابع في الترتيب.
وثق به الملك الراحل محمد الخامس، وكان عينه في قلب الأركان العامة بالرباط.
ميمون أوحفصة كان من نفس جيل الأسماء الكبيرة التي بصمت على مؤسسة الجيش، خلال السنوات العشرين الأولى بعد تأسيس المؤسسة. ينتمي إلى جيل الجنرال إدريس بن عمر والجنرال الكتاني، وكان من بين الذين وثق بهم الملك الراحل محمد الخامس ليشرفوا بشكل مباشر على إدارة الجيش، منذ انطلاقه.
كان هو الثالث تقريبا في ترتيب الأسماء المهمة التي كانت في المحيط الملكي، رفقة الجنرال أوفقير ومولاي حفيظ العلوي، لكن لم يكتب له أن يعمر طويلا في الساحة السياسية. لا تتوفر معلومات دقيقة عن مساره العسكري مفصلا، إلا أنه كان من الجيل الذي شهد ويلات الحرب العالمية الثانية في فرنسا، وعاد إلى المغرب ليدمج في المؤسسة العسكرية، لكنه ترقى بسرعة، لأنه لم يختلط كثيرا بعالم السياسة، ولم ينسج علاقات لا مع الاستقلاليين ولا مع المقاومين. «سقط» في ساحة السلطة بدون خلفيات، لذلك كان الملك محمد الخامس يوليه اهتماما خاصا، ليكون من مؤسسي أركان المؤسسة العسكرية.
كان ميمون أوحفصة يظهر مرات كثيرة في الصف الثالث، خلف الملك الراحل محمد الخامس. وفي آخر ظهور للملك الراحل سنة 1960، في الدار البيضاء في أحد الاستقبالات الرسمية، كان ميمون أوحفصة يقف مباشرة إلى جانب مولاي حفيظ العلوي الذي كان وقتها في ديوان ولي العهد، وأمامه لم يكن يقف إلا محمد الغزاوي، المدير العام للأمن الوطني، والجنرال أوفقير الذي كان يشرف على الأمن الخاص للملك وولي العهد.
بعد وفاة الملك محمد الخامس، كان ميمون من الأسماء المقربة من الملك الجديد، ودخل المرحلة الجديدة بكثير من الطموحات الواعدة، سيما وأن الملك الحسن الثاني في السنة الأولى لوصوله إلى الحكم، قام بترقية أسماء عسكرية كثيرة، أبرزها «المارشال» أمزيان، الذي حصل على هذه الرتبة لأول مرة في تاريخ المغرب. وأحدث تغييرات كثيرة في المؤسسة الأمنية والعسكرية، وكان ميمون حاضرا بقوة في هذا التحديث، لكنه سرعان ما تراجع إلى الخلف تاركا المجال لوجوه عسكرية أخرى مثل الجنرال المذبوح، وكانت وفاته مفاجئة للملك الحسن الثاني، بداية الستينيات، حتى أن الملك الراحل الحسن الثاني أَجَّلَ نشاطا ملكيا عندما وصله خبر وفاة ميمون أوحفصة، احتراما للخدمات التي قدمها هذا الأخير إلى المؤسسة العسكرية.
الكولونيل بوزيان.. حضر حفل التأسيس والدبلوماسية اختطفته من الجيش
يتعلق الأمر هنا بالكولونيل عبد السلام بوزيان، الذي توفي في الأسبوع الأول من يوليوز 2022. وكنا في «الأخبار» قد انفردنا بإعلان وفاته، واستعدنا مساره العسكري والدبلوماسي الحافل.
الطيار عبد السلام بوزيان الذي كان من الجيل الأول من المتدربين المغاربة في الطيران العسكري بفرنسا، عاد إلى المغرب ليؤسس النواة الأولى للطيارين المغاربة. ومع تأسيس القوات المسلحة الملكية، عهد إليه الملك الراحل محمد الخامس على الفور، ليصبح رئيسا للمدرسة العسكرية في مكناس.
في 14 ماي 1956، في سياق تأسيس الجيش الملكي، استقبل الملك الراحل محمد الخامس الفوج الأول، ووعد الطيارين التسعة الذين درسوا الطيران وتدربوا عليه في فرنسا، بمسار واعد في الجيش المغربي، بعد أن سلمهم مفاتيح تأسيس القاعدة المغربية الأولى، والتي كانت تقع في الرباط سلا. الكولونيل عبد السلام بوزيان أمسك مفاتيح قاعدة الرباط، في ما رفيقه في التخرج محمد القباج، الذي أصبح لاحقا ربان طائرة الملك الحسن الثاني خلال السبعينيات والثمانينيات، أمسك مفاتيح قاعدة مكناس.
وكانت تلك ثقة كبيرة من الملك الراحل محمد الخامس، الذي رحب بعبد السلام بوزيان، إذ إن الملك الراحل كان يعرف جيدا أصوله الطنجاوية والعائلة العريقة التي ينتمي إليها.
وفي عهد الملك الراحل الحسن الثاني، بدأ بوزيان مسارا خاصا مع جلوس الملك على العرش سنة 1961. وازدادت التكليفات العسكرية المنوطة به في مجال الطيران، خصوصا وأن المغرب سوف يوقع وقتها اتفاقا مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الطيران العسكري، وسوف يتخلى عن الدعم السوفياتي للمغرب منذ 1956.
وحسب ما جاء في مذكرات الكولونيل بوزيان، والتي نشرها باللغة الفرنسية في موقعه الإلكتروني الخاص، والذي حُجب بعد وفاته، تفاصيل لحظات كثيرة وشخصية، مع الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان مقربا جدا منه، وكلفه بمهمة دبلوماسية تتمثل في شغل منصب الملحق العسكري في سفارة المغرب بواشنطن، وهو المنصب الذي عمر فيه سنوات طويلة.
سنة 1962 طلب بوزيان أن يقابل الملك الراحل الحسن الثاني، وهو ما تم في الثانية صباحا، ذات ليلة رمضانية. اللقاء تزامن مع توقيت وجبة السحور، وكان الملك الحسن الثاني مهتما بطلب الطيار بوزيان لقاءه، وكان وقتها الكولونيل القباج قد طلب إعفاءه من رئاسة قاعدة مكناس، وقدم طلبا وصف فيه أسباب طلبه الإعفاء بالشخصية. وخلفه الكولونيل بوزيان، الذي راكم بدوره تجربة في قاعدة سلا الجوية، وفي ذلك السياق طلب لقاء الملك الحسن الثاني لكي يخبره ببعض التفاصيل المرتبطة بتعيينات تلك القواعد العسكرية.
الكولونيل عبد السلام بوزيان، أحد القلائل الذين تعرفوا على الملك الحسن الثاني عن قرب بعيدا عن البروتوكول، وأفضى إليهم في لحظات صفاء بعيدا عن مهامه الملكية الجسيمة، بأسراره ومخاوفه وتأملاته أيضا. وفضل أن يحمل معه الآن كل هذه الأسرار إلى قبره. فقد كان يعرف جيدا أن أسرار الدولة تموت مع صاحبها، ويجب ألا تغريه الأضواء لكي يفضي بها إلى الصحافة. وقد كانت هذه «عقيدة» الكولونيل عبد السلام بوزيان، الذي رتب أرشيفه ورفع عنه الستار سنة 2016، مادة أولية، وثق فيها لأبرز محطات حياته والمهام الرسمية التي تكلف بها. وظهر في صور وحيدا مع الملك الحسن الثاني، وهو ما يؤكد الحظوة التي كانت لديه، لكنه لم يفصح في أوراقه نهائيا عما كان يدور بينه وبين الملك.





