
في السنوات الأخيرة، برز خطاب سياسي مقلق يتخذ من «محاربة التفاهة» و«حماية القيم» و«الدفاع عن الأخلاق العامة» ذريعة جاهزة للهجوم على الإعلام، والمطالبة الصريحة بتكميم الأفواه، بل وتصفية منابر إعلامية كاملة بدعوى أنها تنشر الانحطاط، وتكرس الرداءة وتمارس التشهير والابتزاز. خطاب يبدو في ظاهره أخلاقيًا إصلاحيًا، لكنه في عمقه يحمل نزعة سلطوية قديمة، تخشى الكلمة الحرة أكثر مما تخشى التفاهة ذاتها.
الأخطر في هذا المشهد ليس فقط مضمون الخطاب، بل موقع إطلاقه، حين يعتلي فاعل سياسي منبر البرلمان، المؤسسة التي يفترض أنها فضاء للتشريع والرقابة وحماية الحريات، ليشن هجومًا عدوانيًا مستفزًا على الإعلام، فإننا لا نكون أمام رأي عابر، بل أمام رسالة سياسية واضحة: أنا من يحدد ما هو الإعلام «الوطني الهادف»، وأنا من يملك سلطة توزيع صكوك الوطنية على المنابر والصحافيين. وما عدا ذلك هو خيانة أو انحطاط أو تهديد للأخلاق العامة.
بهذا المنطق يتحول مفهوم «الإعلام الوطني» من إطار قانوني ومهني قابل للنقاش والنقد، إلى سيف أيديولوجي مسلط على الرقاب. يصبح الإعلام الوطني هو ذاك الذي يصفق، ويهادن، ويصمت عند اللزوم، ويغض الطرف عن الاختلالات ويكتفي بدور المذيع الرسمي غير المعلن. أما الإعلام المزعج، الذي يطرح الأسئلة، ويكشف التناقضات ويحرج السياسي بخطابه أو ممارساته، فيُصنف بسرعة ضمن خانة الرداءة أو التشهير أو الابتزاز.
المفارقة الساخرة أن هذا الخطاب غالبًا ما يصدر عن سياسي يتموقع في المعارضة، ويتقن فن الخطابات العنترية ويرفع سقف الشعارات الأخلاقية إلى أقصاه، لا بدافع الإصلاح، بل بدافع الاستثمار الانتخابي. فالهجوم على الإعلام أصبح ورقة رابحة في سوق الشعبوية، يغازل بها السياسي غضب فئات واسعة من الرأي العام، المتذمرة من محتوى إعلامي سطحي، أو من صحافة صفراء تقتات على الفضائح.. لكن السياسي هنا لا يسعى إلى إصلاح المنظومة، بل إلى ركوب موجة الغضب وتحويلها إلى رصيد انتخابي.
السياسة، خلافًا لما يروج له هذا الخطاب التبسيطي، ليست معركة أخلاق مطلقة بين خير وشر، ولا مواجهة رومانسية بين وطني وخائن. السياسة، في جوهرها، لعبة مصالح متحركة، وتحالفات متغيرة وتموقعات ظرفية. السياسي الذي يهاجم الإعلام اليوم باسم القيم، قد يتحالف غدًا مع من كان يصفهم بصناع التفاهة، إذا اقتضت موازين القوى ذلك. لذلك، فإن الخطاب الأخلاقي المتشدد ليس سوى قناع براغماتي يخفي حسابات باردة.
الأخطر أن هذا المنطق يختزل أزمة الإعلام في بعد أخلاقي سطحي، ويتجاهل الأسباب البنيوية للرداءة: هشاشة النموذج الاقتصادي للمؤسسات الإعلامية، غياب سياسات عمومية واضحة لدعم الصحافة الجادة، ضعف التكوين وتراجع ثقة الجمهور. بدل معالجة هذه الجذور، يختار السياسي الطريق الأسهل: شيطنة الإعلام، وتحميله مسؤولية كل الأعطاب والدعوة إلى القمع تحت مسمى الإصلاح.
غير أن محاربة الرداءة الإعلامية لا يمكن أن تتم بالعصا، ولا بتكميم الأفواه ولا بتصنيف الصحافيين إلى وطنيين وخونة. السبيل الأخلاقي الوحيد يمر عبر تعزيز حرية التعبير، لا خنقها. يمر عبر تقوية التنظيم الذاتي للمهنة، وتفعيل مجالس أخلاقيات الصحافة باستقلالية حقيقية، وربط المسؤولية بالمحاسبة القضائية العادلة، لا بالخطاب الشعبوي.
كما يمر عبر دعم الإعلام الجاد بشفافية، وتطوير التربية الإعلامية لدى الجمهور، حتى يصبح قادرا على التمييز بين المحتوى الرديء والمحتوى المهني، بدل التعامل معه كقاصر يحتاج إلى وصاية سياسية. فالإعلام الرديء لا يُهزم بالمنع، بل بالمنافسة، وبإنتاج محتوى أفضل وبناء ثقة مفقودة.
إن أخطر ما في خطاب تكميم الأفواه ليس فقط تهديده للإعلام، بل تهديده للسياسة نفسها. فسياسة، بلا إعلام حر، سياسة بلا مرآة، بلا مساءلة وبلا معنى. ومن يخاف الكلمة، غالبًا ما يخاف الحقيقة، مهما تزين بشعارات الأخلاق والوطنية.





