
في ليلة الأحد 11 ذي القعدة 571هـ الموافق لـ28 ماي 1176م كان القائد صلاح الدين الأيوبي على موعد مع رسل الموت من الحشاشين، فبينما كان في خيمة الأمير الكردي «جاولي الأسدي»، قائد أركانه، وهما يستعرضان الخرائط الحربية ضد الصليبيين، اقتحم الخيمة شاب مفتول العضلات وكأنه جني لخفة حركته، يلتمع في يمناه خنجر هوى به على رأس صلاح الدين. ولكن صلاح الدين كان محظوظا، فقد صدم النصل المسموم الزردية من الحديد، التي تغطي رأسه، فأدرك المجرم أنه أخطأ هدفه، فقام بتوجيه طعنة إلى الخد فجرحه، وانقض الضباط الأكراد على الرجل فقتلوه. وخلال لحظات كان ثلاثة من الشبان يتدافعون إلى الخباء بالطريقة نفسها من التدريب المتقن على القتل المنظم، فقتلوا العديد من الجنود والضباط، قبل أن يقعوا صرعى في محاولة الاغتيال المدبرة بغاية الدهاء والجرأة. ولنقارن الآن هذا العام 1176م وبين عام 1187م، معركة حطين مع الصليبيين واسترداد القدس.
وينطق التاريخ مرة أخرى عن دور الصدف في صناعة التاريخ، فلو مات صلاح الدين في تلك المحاولة لما تم تحرير القدس، ولم تكن لتقع موقعة حطين عام 1187م. ولو مات بريجنيف، الزعيم الروسي، وكان شيخا مدنفا، لما تم اجتياح أفغانستان عام 1980م، ولما انخرط الشباب الإسلامي في مقاومة الروس في حرب أمريكية، وهم يظنون أنهم يقاتلون في سبيل الله، ولما تحولت أفغانستان إلى بؤرة لتصدير العنف لكل العالم، ولما ولد بن لادن ليضرب أبراج نيويورك، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
جرت محاولة اغتيال صلاح الدين الأيوبي في إعزاز القريبة من حلب، وحاكم المدينة «كمشتكين» يتصل آنذاك بريموند الثالث، حاكم طرابلس الصليبي، وشيخ الجبل «سنان راشد الدين»، للتخلص من صلاح الدين الأيوبي.
ولم تكن هذه المحاولة الأولى من نوعها، التي يتعرض لها صلاح الدين، فقد ذكر «قدري قلعجي» واقعة شكك فيها، عندما استطاع الفدائي «حسن الأكرمي» التمكن من الدخول إلى مخدع صلاح الدين في القاهرة، وترك قرب وسادته خنجرا مسلولا مغموسا بالدم مع الكلمات التالية: «اعلم أيها السلطان المغتصب أنك وإن أقفلت الأبواب ووضعت الحرس، لا تستطيع أن تنجو من انتقام الإسماعيلية. أراك قد بلغت القحة واستبديت دون أن تحسب حسابا لشيخ الجبل الإسماعيلي، الذي يقف لك بالمرصاد، ولو أردنا قتلك الليلة لفعلنا، ولكن عفونا عنك لعلك تقدر ذلك، وإننا ننذرك لتصلح من سيرتك وتعيد الحق المغتصب إلى ذويه. ولا تحاول أن تعرف من أنا، فذلك صعب عليك، وبعيد عنك، بعد السماء عن الأرض، إذ قد أكون أخاك أو خادمك أو حارسك أو زوجك وأنت لا تدري.. والسلام».
والكلام الذي جاء في الرسالة يجب فهمه ضمن البانوراما التاريخية، فأن يعيد صلاح الدين الحق إلى ذويه يعني إعادة الخلافة الفاطمية التي أنهاها في مصر، بعد حكم دام قرنين من الزمن، ليعيدها إلى الخليفة العباسي، والذي لم يكن يزيد عن ظل شبح زائل وسلطان يذوب بأسرع من الآيس كريم، في صيف لاهب من الأحداث.
إن اللغة الإنجليزية ما زالت تحمل الرنين المرعب لكلمة الاغتيال «أساسين ـ Assassination»، وهي كلمة مشتقة من عندنا من حفلات الرعب والدم التي مارستها طائفة الإسماعيليين في القرنين الثاني والثالث عشر للميلاد، من خلال حركات سرية من مثل تنظيم الحشاشين، الذي وصفه «قدري القلعجي» بأنه تحول خلال «مائة سنة إلى عصابة سرية فريدة من نوعها في التاريخ، مدربة على القتل المنظم، ولا هم لها أو غاية سوى الاغتيال وبث الذعر، ونشر الإشاعات المخيفة». حتى كانت نهايتها كما تنتهي كل فكرة بالانتحار الداخلي، وتتحول إلى طائفة «Cult» تعيش في ذاكرة التاريخ.
إن تاريخنا مليء بالفظاعات والدماء، وثقافة الاضطهاد، ونشوء الحركات السرية المسلحة، ولم تكن فرق «الحشاشة» الوحيدة، فقد سبقها للقتل المنظم المروع جماعة «الخوارج»، في ظاهرة تحتاج إلى أن توضع للتشريح التاريخي هذه الأيام، والعالم الإسلامي يعاد بناؤه بعد أحداث شتنبر.
إن قراءة التاريخ مفيدة جدا، وهي تعطي وعيا خاصا بالدراسة المقارنة، وحقلا خصبا لفهم الإنسان، وتنشؤ المجتمع وأمراض الثقافة.
إن كل حدث هو في علاقة جدلية بين الماضي والحاضر، فهو نتيجة لما كان قبله، كما هو سبب لما سيأتي بعده. وهذا القانون في جدلية الأحداث وترابطها، يجعلنا نستوعب أمراض مجتمعاتنا الحالية أنها تركة ثقيلة من أيام الحشاشين والخوارج. وعندما وقعت مذبحة حماة عام 1982م، فقتل فيها 20 ألفا أو يزيدون، فهي تدين إلى ذلك التاريخ من الكراهية العميقة المتبادلة بين الطوائف، منذ أيام الحشاشين. وفي الوقت الذي استطاع صلاح الدين استيعاب الحشاشين، وتوظيفهم للهدف الأسمى بتحرير المنطقة من الصليبيين، غصنا نحن في مستنقع دموي حتى الذقون.
وهناك من يظن أن «الحشاشين» أصبحوا في ذمة التاريخ، وأن «الخوارج» أصبحوا في بطون الكتب، ولكن حركات الإسلام السياسي أحيت مذهب الخوارج، تحت كلمة الجهاد بدون جهاد. واليوم تنتعش عظام «أبي حمزة الخارجي» في قبره، فقد أحيا شباب الجزائر وأفغانستان ومناطق شتى من العالم الإسلامي مذهبه بكل قوة. كما أن الحشاشين استبدلوا قلعة «آلاموت» في جبال مازندان بجبال خوست. والتاريخ كما يقول «نيتشه» يحكمه قانون العود الأبدي.
نافذة:
هناك من يظن أن «الحشاشين» أصبحوا في ذمة التاريخ وأن «الخوارج» أصبحوا في بطون الكتب ولكن حركات الإسلام السياسي أحيت مذهب الخوارج



