الرأي

مرّونة

خرجت من مكتبي قبل موعد انصرافي العادي ببضع دقائق، لأنني أحسست بإنهاك شديد وعدم القدرة على التركيز في أي شيء، والواقع أنني ظللت طول اليوم أحاول أن أستجمع قواي لكي أبدو طبيعية، خصوصا أن أول أيام الأسبوع يستلزم كثيرا من الحيوية والنشاط وكثيرا من الطاقة المدخرة بآبار الأيام الماضية.
عدت إلى المنزل أفكر في شيء واحد، أن أنام لبعض الوقت لكي أنعم بصفاء الذهن، وبالتالي أتمكن من كتابة بعض السطور، فقد تصورت أن عودتي لقراءة «الكوميديا الإلهية» سوف تلهمني قصيدة من السماء، أو عملا من شأنه أن يسجل نقلة نوعية في حياتي ككائن لغوي متورط في متاهة الحرف..
لكن الواضح هو أنني نزلت بكامل ثقلي في جحيم دانتي، فقط لكي أجعل جحيم الحياة وضغوطاتها وفواتيرها التي لا ترحم، مجرد ظل من الظلال، وبأن تلك الرحى قد تلوكني عشرات المرات قبل أن تلفظني لألتقط أنفاسي من أول درج.. سئمت البدايات التي لم تعد تختلف عن النهايات في شيء، نبدأ لننتهي، هذه كل الحكاية!
والفظيع في الأمر أن النوم في واضحة النهار بغرفتي يعد ضربا من الحظ، لأنني أقيم بمنزل يحد شمالا بالمحطة الطرقية وجنوبا بمقر الوقاية المدنية، هذه الأخيرة التي لا تكف عن إطلاق صفارات ودوريات يومية لا أدري لماذا بالتحديد لكنني أتصورها دورات تدريبية، فلا يمكن تصور حجم الكوارث والحرائق إذا كانت سيارات الوقاية المدنية لا تطلق صفارتها إلا بهدف الإنقاذ أو الإطفاء، لكن لا خيار لدي، قررت أن أغمض عيني وأتجاهل ما يجري بالخارج، ومن شدة الإعياء ابتلعني النعاس فورا.. لم أهنأ بالقسط الوافر للراحة وصفاء الذهن، لأن صفارة واحدة لسيارة الإطفاء جعلتني أقوم من فراشي مذعورة، لأنني لم أستطع أن أميز بين صوت الصفارة ومواء القطة، تلك التي صدمتها سيارة أحد الأصدقاء قبل يومين؛ المسكين كان يحكي لي عن هذه الحادثة وهو في غاية التأثر والإحساس بتأنيب الضمير، ويبدو أنني تأثرت بدوري وحزنت بعض الشيء ثم حاولت أن أصرف عنه الإحساس بوخز الضمير، وبأن الحادث يقع كثيرا وبأنه لم يكن متعمدا، إلى غير ذلك.. غير أن القطة التي رأيت في منام قيلولة العصر، أعرفها حق المعرفة، إنها «مينوش» قطة السيدة العجوز، التي توفيت قبل سنوات وتركت خلفها حكايات ونوادر تعطي للتذكر معنى.
كانت السيدة تسكن بحينا في المدينة العتيقة، وحيدة بمنزل مجاور لضريح «سيدي امبارك»، الذي يطلق اسمه على ذلك الحي، ويقال إن المنزل هو في حقيقة الأمر فناء الضريح وفي ملك الأحباس، وبالفعل كان فناء عاريا مفتوحا على هبة السماء، به غرفة واحدة في الجانب الأيمن، أذكرها جيدا بكل تفاصيلها، تحرسها قبة الضريح الخضراء البارزة للعيان، والتي كانت تضفي على المكان هالة من الهيبة والوقار، فقط للوهلة الأولى..
كنت في ربيعي السابع عندما سمعت طرقا على الباب، وكان بمثابة عدسة تكشف عن صاحبها فما من أحد في منزلنا يتوه عن طرق الخالة مرّونة، هكذا كان يلقبها كل من يعرفها إذ لم تكن شخصية عادية، بل امرأة ذات طباع ونوازع خاصة تجعل كل من يعرفها مرة، يتوق لحديثها وأسمارها وضحكاتها.. كانت على سجيتها تسبقها عفويتها التي لا تملك سواها، لدرجة تجعل البعض يعتقد أنها حتما تعاني من بعض التخلف العقلي أو السلوكي، لكن العديد ممن عرفوها حق المعرفة كانوا يسلمون بأنها مجذوبة وذات كرامات. (يتبع…)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى