
نعيمة لحروري
في لحظة سياسية دقيقة تعيشها البلاد، تتقدم وزارة الداخلية بمشروع قانون تنظيمي جديد لتعديل القانون رقم 27.11 المتعلق بمجلس النواب، في خطوة تبدو على ظاهرها حازمة، تستهدف تشديد النزاهة الانتخابية وتعزيز الثقة في المؤسسات المنتخبة. غير أن جوهر الإصلاح، كما العادة، لا يُختبر في النصوص وحدها، بل في الإرادة السياسية التي تحكم تنزيلها، وفي أخلاق الفاعلين الذين يمارسونها على الأرض.
المشروع التشريعي الذي سيُعرض على البرلمان خلال الدورة الحالية، يتضمن مقتضيات غير مسبوقة في تاريخ التشريع الانتخابي المغربي. فهو يمنع من الترشح كل من صدر في حقه حكم نهائي بالعزل، أو بعقوبة سالبة للحرية، سواء كانت نافذة أو موقوفة التنفيذ. كما يمدّد هذا المنع ليشمل من ضُبط في حالة تلبس بجريمة انتخابية من تلك المنصوص عليها في القانون 57.11، في خطوة تعكس رغبة الدولة في تجفيف منابع الفساد الانتخابي، وقطع الطريق أمام عودة المفسدين إلى المشهد السياسي من نوافذ القانون، بعد أن أُخرجوا من أبوابه.
ولم يتوقف المشروع عند هذا الحد، بل ذهب أبعد حين نصّ على تجريد أي نائب يُدان قضائيا، أو يُعتقل لأكثر من ستة أشهر، بناء على إحالة من النيابة العامة إلى المحكمة الدستورية، في سابقة تعيد الاعتبار لمفهوم «ربط المسؤولية بالمحاسبة».
كما وسّع المشروع حالات التنافي لتشمل رئاسة مجالس الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات والمقاطعات والغرف المهنية، حتى لا تتحوّل المناصب الانتخابية إلى شبكة مصالح متقاطعة تُقايَض فيها المناصب والمنافع.
من حيث الشكل، تبدو هذه الخطوات صلبة، دقيقة، ومعبّرة عن إرادة رسمية في تنظيف الحقل السياسي من شوائبه. غير أن الحقيقة الأعمق تكمن في السؤال التالي: هل تكفي القوانين وحدها لصناعة النزاهة؟
إنّ التجربة الديمقراطية لا تُبنى فقط بالمراسيم والنصوص، بل بثقافة سياسية جديدة تضع الأخلاق في صدارة الممارسة. فحين تُمنح التزكيات لمن لا يليقون، وحين تُفتح أبواب البرلمان أمام من تُثقلهم ملفات قضائية أو ماض غامض، فإن كل تشديد قانوني يصبح بلا روح، لأن العطب الحقيقي يسكن في مكان آخر: في داخل الأحزاب ذاتها.
يفترض في الأحزاب السياسية، إن كانت تحترم نفسها وتحترم المواطنين، أن تمارس رقابة ذاتية صارمة، قبل أن تتدخل الدولة. فالتزكية ليست ورقة تمنح في موسم الانتخابات، بل شهادة ثقة ومسؤولية أخلاقية. وما دام كثير من الأحزاب ما زالت تتعامل مع الترشيحات بمنطق الزبونية والولاء والمال، فإن النصوص لن تكون سوى ستار جميل يغطي وجها قبيحا من الممارسة.
الواقع اليوم لا يحتاج إلى كثير من الأدلة: عشرات المنتخبين والبرلمانيين يقبعون في السجون، أو يواجهون المتابعات القضائية بتهم تتعلق بالفساد، واستغلال النفوذ، وتبديد المال العام. مشهد كهذا لا يسيء إلى الأفراد فحسب، بل إلى العمل السياسي برمته، ويزرع في نفوس المواطنين شعورا باللاجدوى وفقدان الثقة في المؤسسات المنتخبة، التي يفترض أن تمثلهم وتصون مصالحهم.
إن الطريق إلى انتخابات نزيهة لا يمر فقط عبر تضييق مساحات الترشح أمام المفسدين، بل عبر إعادة الاعتبار إلى السياسة نفسها كمجال للشرف والمسؤولية. القانون قد يمنع المذنب من الترشح، لكنه لا يستطيع أن يزرع الضمير في من غابت عنه البوصلة الأخلاقية. الإصلاح الحقيقي يبدأ من الأحزاب: من لجانها التنظيمية، من معاييرها في اختيار المرشحين، من جرأتها في رفض المشبوهين، ومن استعدادها لتجديد دمائها بوجوه نظيفة تحمل همّ الوطن لا همّ المقاعد.
ربما تكون وزارة الداخلية قد أدت دورها في تحصين النصوص، لكن الدور الأهم يقع على من يحملون راية السياسة ويخاطبون الناخبين باسم الإصلاح والديمقراطية. فالقانون، مهما اشتد يظل بلا قيمة إن لم يواكبه ضمير حيّ، ومؤسسات حزبية تؤمن أن السياسة ليست تجارة في الأصوات، بل عقد شرف بين المواطن والوطن.





