شوف تشوف

وصفة لتجنب مغص الدماغ الحاد

هناك ما يقال علنًا وهناك الحقيقة.
عندما نرى ونسمع دونالد ترامب مثلًا يهدد الصين بقطع العلاقات التجارية نهائيا معها نقرأ بالمقابل ما كتبه جون بولتون في كتابه الفاضح حول طلب ترامب للرئيس الصيني دعمه في الانتخابات وذلك باقتناء فول الصويا لأن ذلك سيجلب له أصوات المزارعين.
وعندما نراه يبتز حكام السعودية ويشهر أمامهم مثل مندوب تجاري لشركات السلاح لائحة العتاد الذي عليهم اقتناؤه منه مقابل السكوت عن فضيحة قتل الصحافي جمال خاشقجي في مقر السفارة السعودية بتركيا، نقرأ في كتاب ابنة أخ ترامب المزلزل والذي يحمل عنوان “هكذا صنعنا أخطر رجل في العالم” أن كل ما قام به ترامب من تمثيلية أمام كاميرات التلفزيونات كان فقط لكي يصرف الأنظار عن فضيحة ابنته ومستشارته إيفانكا التي تورطت في استعمال بريدها الشخصي في أمور لها علاقة بالبيت الأبيض، وهي الفضيحة نفسها التي استعملها ترامب لمهاجمة هيلاري كلينتون خلال الحملة الانتخابية بعدما تورطت هي الأخرى في استعمال بريدها الشخصي في أمور لها علاقة بمنصبها.
يهدد ترامب علنا بقطع العلاقات التجارية مع الصين لكن في السر يرخص لشركات أمريكية بالتعامل مع شركة هواوي لاستغلال شبكات الجيل الخامس من الأنترنيت.
إذن فهناك ما نسمع ونرى وهناك الحقيقة التي تظهر في ما بعد حسب المصلحة. الأمر يتعلق في النهاية بشيء واحد هو فن التوقيت.
عندما بدأت المفاوضات الثلاثية حول سد النهضة بين وزراء مياه مصر والسودان وإثيوبيا اعتقد البعض أن هذه المفاوضات جدية، فيما الحقيقة أنها كانت مجرد محاولة لكسب الوقت ريثما يملأ خزان السد خلال أيام، لأن هذا السد سيكون بمثابة قنبلة إثيوبيا المدمرة التي إذا أطلقت مياهه على مصر والسودان أغرقتهما ومحتهما من وجه البسيطة.
لذلك فسد النهضة في إثيوبيا ليس مجرد سد عادي، بل هو سيف ديمقليس المصلت فوق رأس جمهورية مصر. فهو لا يرهن فقط حاضر ومستقبل مصر الفلاحي، بل إن مخزون مصر من الماء الشروب سيكون بين أيدي إسرائيل التي تختفي وراء السد الإثيوبي. والجميع يعرف أن المياه الجوفية والزراعية في مصر كلها تأتي من النيل.
عندما قلنا إن هذا السد هو سلاح دمار شامل فلسببين، واحد طبيعي وآخر بشري، السبب الطبيعي هو حدوث زلزال لا قدر الله، والسبب الثاني هو قصف هذا السد من طرف جماعة مسلحة. وفي كلتا الحالتين ستفيض مياه سد النهضة وتغرق السودان ومصر.
بمعنى أن هذا السد هو ورقة ضغط دائمة في يد إسرائيل، فإما أن تخضع وإما أن تجوع أو تعيش على هاجس الغرق.
في ليبيا هناك دول تتصارع في ما بينها عبر سياسة التدبير المفوض للحرب. تركيا جلبت مرتزقة سوريين، حفتر جلب مرتزقة سودانيين وتشاديين، روسيا جلبت شركة خاصة اسمها فاغنر لديها مقاتلوها المحترفون.
وبالنهاية فهناك معسكران يتقاتلان عبر جيوش بالوكالة، معسكر تركي قطري موال لحكومة السراج ومعسكر روسي سعودي مصري إماراتي موال لخليفة حفتر. فرنسا وأمريكا تقفان خلف المشهد وتدعمان الاثنين بانتظار الاصطفاف مع الفائز. وليس بعيدا أن يتفق القيصر بوتين مع السلطان أردوغان على اقتسام الكعكة في ليبيا مثلما فعلا في سوريا من قبل بعدما دكا مدن وبلدات البلد فوق رؤوس مواطنيها.
هذه الدول جميعها لديها مصالح في ليبيا ومياهها الإقليمية، وهي مصالح اقتصادية تجارية تتعلق أساسا بمصادر الطاقة والمعابر المائية. لكن هناك دولا لها مصالح أخرى أخطر وهي إعداد التربة المناسبة لخلق إمارة داعش في المغرب الكبير لإدخال المنطقة في دوامة حرب بلا نهاية.
وهذا هو المخطط الذي لا تقوله التصريحات والمؤتمرات التي نراها في المحطات التلفزيونية، وهذا بالضبط هو المخطط الذي يتصدى له المغرب، وذلك بدعم الشرعية والوقوف إلى جانب الحكومة المنتخبة والبرلمان المنتخب من أجل هدف واحد هو الإيقاف الفوري للاحتراب وإغراق المنطقة بالأسلحة القادمة من كل مكان ونسف مخطط زرع بذور إمارة داعش في خاصرة المغرب الكبير.
المغرب يعي أنه في حالة زرع هذا السرطان الذي يتم التخطيط لنشره في المغرب الكبير بعدما أدى دوره الخبيث في الشام والعراق فإنه سينتشر في المنطقة بسهولة، فدول منطقة الساحل أضحت سوقًا مفتوحة لشتى أنواع التجارات الممنوعة من المخدرات إلى السلاح، وتونس دولة صغيرة وإمكانياتها محدودة ولا طاقة لها بمواجهة هذا السرطان، والجزائر لم تخض حربا منذ استقلالها عدا حرب واحدة مع المغرب خرجت منها مهزومة، وحتى حربها مع الجماعات المسلحة فشلت فيها وأصبحت غير قادرة حتى على تأمين محطات بترولها. إذن يبقى المغرب هو الوحيد الذي يملك جيشًا نظاميًا مدربًا ومسلحًا بشكل حديث، حارب دفاعا عن حدوده لعشرات السنين، وحارب في الجولان دفاعًا عن فلسطين، تماما مثلما حارب أجداده مع صلاح الدين الأيوبي دفاعًا عن القدس.
لهذا فالمغرب يسعى إلى ترك ملف ليبيا بيد الليبيين حتى لا ينتهوا مقسمين فيسهل ابتلاعهم من طرف هذا التنين المسمى داعش، والذي إن كان رأسه قد قطع في الشام والعراق بمقتل البغدادي فإن رؤوسا أخرى ستظهر له في أماكن أخرى بزعماء آخرين ومرتزقة جدد ينضافون إلى الآلاف الذين جلبهم المتقاتلون حول الكعكة الليبية.
لذلك لا يجب الاكتفاء باستهلاك الأخبار طرية ونيئة، بل يجب تركها تتقلب على نار المنطق الهادئة حتى تنضج وتصبح قابلة للاستهلاك دون أن تتسبب للدماغ في مغص حاد في الفهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى