حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفن

أسرار وخبايا الكتابة عند ماريو فارغاس يوسا

اختيار وترجمة: سارة حامد حواس

وُلدتُ في بيرو، لكنني قضيت أولى عشر سنوات من حياتي في بوليفيا. وعندما عدت إلى بيرو، عشتُ في بيورا، ثم في ليما، وبعد ذلك عشت في إسبانيا، وفرنسا، وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، متنقلًا من مكانٍ إلى آخر. أعتقدُ أن جذوري البيروفية مهمة جدًّا بالنسبة إليَّ، لأن أولى الصور التي احتفظتْ بها ذاكرتي ترتبطُ ببيرو. اللغة الإسبانية التي أتكلمها هي الإسبانية البيروفية، وهي جزءٌ من اللغة الإسبانية العامة، لكنها تمتاز بخصائصٍ معينة وموسيقى خاصة بها.

سارة حامد حواس

لذا، يمكنني القول إنني كاتب بيروفي، لكنني لست قومي النزعة. أنا عدوٌ معلنٌ لكل أشكال القومية. أعتقدُ أن العيش في فرنسا وإنجلترا وغيرها من الدول كانت له الأهمية نفسها بالنسبة إليَّ كوني وُلدت في بيرو..

أعتقدُ أن هذا واحد من الدروس المهمة التي تتلقاها ككاتب؛ كل ما تفعلهُ يسهم في بناء شخصيتك وحساسيتك. النظرة القومية ضيقة جدًّا ومحدودة للغاية، تحبسُ الإنسان في إطارٍ محدودٍ لفهم المشكلات والحياة. لكن الأدب يساعدك على تجاوز هذه النظرة المحدودة جدًّا. عندما تقرأُ كتابًا من لغاتٍ وتقاليد مختلفة، تكتشفُ أن القاسم المشترك بين البشر أكبر بكثير وأهم من هذه النظرة المحلية أو الإقليمية أو القومية. ولهذا أعتبر نفسي مواطنًا عالميًّا، وأعتقد أن الأدب ساعدني كثيرًا في تبنِّي هذا الموقف..

أطمحُ إلى عالمٍ يشعرُ فيه الناس، من أي مكان، أنَّهم ينتمون إلى كل مكانٍ. ًيمكنُ تحقيق هذا الهدف من خلال الثقافة، التي هي الأداة العظيمة لتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، أو الدينية..

 

حلم يتحقق

كانت لديَّ بالطبع نماذج من الكُتَّاب العظماء الذين ألهموني، وكان من بينهم، وبشكلٍ خاص، فلوبير. والسبب في ذلك هو أنه، بخلاف الكثير من الكُتَّاب الذين بدوا كأنهم عباقرة منذ ولادتهم، كان فلوبير يعملُ بجدٍّ كبيرٍ في حياته ليصل إلى إنتاج أعمال أدبية عظيمة. بالنسبة له، الموهبة شيء نتج عن المثابرة، والانضباط والإرادة ليكوِّن كاتبًا جيدًا. عندما قرأتُ أول رواية له، «مدام بوفاري» أحببته كثيرًا. قرأتُ أيضًا الكثير عن حياته، واكتشفت أنه عندما بدأ الكتابة لم يكن عبقريًّا على الإطلاق، بل كان كاتبًا عاديًّا يكتبُ تحت تأثير نماذجه الأدبية..

شعرت أنني لست عبقريًّا بطبيعتي، وإذا أردت أن أكتب كتبًا جيدة، كان لا بد لي من العمل بجد. كان فلوبير مصدر إلهام كبير بالنسبة إليَّ، ليس فقط لجمال وغنى كتبه، ولكن لأنه، رغم أنه لم يولد عبقريًّا، بنى عبقريته من خلال الجهد، والالتزام والمثابرة.

كان لديَّ حلم بدا حينها مستحيلًا تمامًا، وهو أن أصبح كاتبًا.. وراودتني فكرة أن تكون حياتي مكرَّسة لسرد القصص واختراعها.. لكن هذا الحلم بدا مستحيلًا في ذلك الوقت، لأن عدد الكُتَّاب اللاتينيين الذين كانوا يتفرغون للكتابة فقط كان نادرًا جدًّا. الكُتَّاب الذين كنتُ أعرفهم كانوا يمارسون الكتابة كهوايةٍ فقط في عطلات نهاية الأسبوع أو الأعياد.. أما أنا، فلم أكن أرغب في أن أكون كاتبًا يمارسُ الكتابة كهوايةٍ فقط أو في أوقات الفراغ.

اكتشفتُ أن هناك مدينةً في العالم يمكن فيها للمرء أن يكون كاتبًا متفرغًا، وهذه المدينة كانت باريس. منذ صغري، كنت مقتنعًا بضرورة تنظيم حياتي للوصول إلى باريس، لأنني اعتقدتُ أن الحياة هناك تتيحُ إمكانية التفرُّغ للكتابة فقط. وقد تحقَّق لي هذا الحلم إلى حدٍّ كبيرٍ. فعندما أنهيتُ دراستي الجامعية، حيث درستُ القانون، وفي الوقت ذاته درستُ العلوم الإنسانية كهوايةٍ، ثمَّ حصلتُ على منحةٍ لإكمال الدكتوراه في إسبانيا، فسافرتُ إلى مدريد وبقيت هناك لمدة عامٍ ونصف العام، ومن ثم انتقلتُ إلى باريس.

استطعتُ أن أنظِّمُ حياتي، في باريس، بحيث أتفرَّغُ للكتابة بشكلٍ كاملٍ تقريبًا، مع الحصول على وظائف تتيحُ لي وقتًا كافيًا للقراءة والكتابة. هناك أصبحتُ كاتبًا محترفًا كما كنتُ أحلم في طفولتي. عشتُ في باريس لمدة سبع سنوات، عملتُ خلالها صحافيا ومعلما، وكان ذلك النوع من الوظائف يمنحني الكثير من الوقت الحر، مما سمح لي بتكريس معظم وقتي للكتابة..

وفي باريس، استطعت تدريجيًّا أن أخصِّصَ وقتي بشكلٍ أكبر للكتابة. هناك أنهيتُ روايتي الأولى، ثم روايتي الثانية، وكنت أكتب روايتي الثالثة عندما انتقلتُ من باريس إلى لندن من أجل التدريس. التدريس في جامعة بلندن كان تجربة ممتعة جدًّا، حيث كنت أُدرِّسُ الأدب، وبخاصة الأدب اللاتيني والإسباني، وكانت هذه الوظيفة تمنحني وقتًا كبيرًا للكتابة. يمكنني القول إنني أصبحت كاتبًا حقيقيًّا في باريس ولندن وأوروبا عمومًا..

صحيح أن الكتابة أو التأليف أو الرسم هي أيضًا وظائف، لكنها نوعٌ خاص جدًّا من الوظائف، حيث إنَّك أثناء ممارستها تحصلُ بالفعل على مكافأةٍ رائعةٍ لما تقومُ به. إنَّك تفعلُ شيئًا تحقق من خلاله ذاتك، وتنجز شيئًا كان ضرورة كبيرة لشخصيتك لتكون، كيف أقولها، وفيًّا لنفسك. هذه ستكون نصيحتي لكاتب شاب: استمتع بما تفعلهُ، وكن ناقدًا جادًّا لنفسك، واستمتع بهذا النوع من الرضا الذي يأتي من الشعور بالإنجاز في ما تقومُ به.

 

بورخيس الأعظم بين العظماء

عندما كنت شابًّا، كنتُ قارئًا شغوفًا لأعمال سارتر. كما قرأتُ الرواية الأمريكية، بخاصة جيل الضائعين، فوكنر، وهمنجواي، وفيتزجيرالد، ودوس باسوس، خصوصًا فوكنر. من بين المؤلفين الذين قرأتُ لهم في شبابي، يظل فوكنر أحد القلائل الذين لا يزالون يعنون لي الكثير. لم أشعر بخيبة أمل أبدًا عندما أعدتُ قراءة أعماله، بعكس ما حدث أحيانًا مع همنجواي، على سبيل المثال. أما سارتر، فلا أعتقدُ أنني سأعيدُ قراءته اليوم؛ مقارنةً بكلِّ ما قرأتهُ منذ ذلك الحين، تبدو رواياته قديمة وفقدت الكثير من قيمتها. أما مقالاته، فأرى أن معظمها أقل أهميةً، باستثناء ربما «القديس جينيه.. المهرج أو الشهيد»، الذي ما زلت أحبّه. مقالات سارتر مليئة بالتناقضات والغموض وعدم الدقة والاستطرادات، وهو شيءٌ لم أجده أبدًا عند فوكنر.

فوكنر كان أول روائي قرأتهُ بقلمٍ وورقةٍ في يدي، لأن تقنياته أذهلتني. كان أول روائي حاولت تحليلُ أعماله بوعيٍ، من خلال تتبُّع تنظيم الزمن، وتقاطعات الزمن والمكان، والانقطاعات في السرد، وقدرته على سرد القصة من وجهات نظر مختلفة لخلق غموضٍ معين وإضفاء عمقٍ إضافي..

قرأتُ، بعد ذلك، روايات القرن التاسع عشر الميلادي بشغفٍ كبيرٍ: فلوبير، وبلزاك، ودوستويفسكي، وتولستوي، وستندال، وهوثورن، وديكنز وميلفيل، وما زلت قارئًا متحمسًا لكُتَّاب القرن التاسع عشر.

أما في ما يتعلق بالأدب اللاتيني الأمريكي، فمن الغريب أنني لم أكتشفه حقًّا إلا عندما عشتُ في أوروبا، حيثُ بدأتُ أقرؤه بحماسة كبيرة. اضطررتُ إلى تدريسه في إحدى الجامعات بلندن، وكانت تلك تجربة غنية للغاية لأنها أجبرتني على التفكير في الأدب اللاتيني الأمريكي ككلٍّ. منذ ذلك الحين قرأت خورخي لويس بورخيس، الذي كنت أعرفهُ قليلًا من قبل، وكاربنتيير، وكورتاثار، وجيمارايس روزا وليزاما ليما، ذلك الجيل بأكمله باستثناء غابرييل غارثيا ماركيز. اكتشفتهُ لاحقًا، وكتبتُ حتى كتابًا عنه بعنوان «غارثيا ماركيز.. تاريخ محكوم بالإعدام»..

ولكن إذا اضطررتُ إلى اختيار اسم واحد، فسأقول بورخيس، لأن العالم الذي يخلقهُ يبدو لي أصليًّا تمامًا. إلى جانب أصالته الهائلة، يتمتع بخيالٍ وثقافةٍ استثنائيةٍ، وهي خاصة به تمامًا. ثم هناك لغة بورخيس أيضًا، التي كسرت تقاليدنا وفتحت تقليدًا جديدًا. الإسبانية لغة تميلُ إلى الزخرفة، والإسهاب والغزارة. كُتَّابنا العظماء كانوا مسهبين دائمًا، من سربانتس إلى أورتيجا إي جاسيت، وبايي-إنكلان، أو ألفونسو رييس. أما بورخيس، فهو على النقيض تمامًا، فكله إيجاز، واقتصاد ودقة. إنه الكاتب الوحيد في اللغة الإسبانية الذي تتساوى عنده تقريبًا كثافة الأفكار مع عدد كلماته. بلا شك هو أحد أعظم كُتَّاب عصرنا.

 

قصص تفرض نفسها

بالنسبة إليَّ، أعتقد أن الموضوع هو من يختار الكاتب، لأنني دائمًا ما شعرت بأن قصصًا معينة فرضت نفسها عليَّ؛ لم أستطع تجاهلها، لأنها بطريقةٍ غامضةٍ ما، كانت ترتبطُ بتجربةٍ جوهريةٍ معينة—لا أستطيعُ تحديدَ ماهيتها تمامًا. على سبيل المثال، الفترة التي قضيتها في مدرسة «ليونثيو برادو» العسكرية في ليما عندما كنت صبيًّا صغيرًا خلقتْ لديَّ حاجة حقيقية، ورغبة ملحة في الكتابة. كانت تجربة شديدة الصدمة، وفي كثير من النواحي مثَّلت نهاية طفولتي، وإعادة اكتشاف بلدي كمجتمعٍ عنيفٍ، مليءٍ بالمرارةِ، منقسمٍ إلى فصائل اجتماعية وثقافية وعرقية متعارضة تمامًا، ومتشابكة أحيانًا في معارك شرسة. أعتقد أن تلك التجربةَ أثَّرت عليَّ؛ كما أنها خلقت داخلي حاجة عميقة للإبداع والاختراع.

حتى الآن، كان الأمر كذلك مع كل كتبي تقريبًا. لم أشعر يومًا أنني قررتُ بوعيٍ وببرودٍ كتابة قصة. على العكس، أحداث معينة أو أشخاص أو أحلام، وأحيانًا قراءات، تفرضُ نفسها فجأة وتطالب بالاهتمام.. أود أن تُقرأ رواياتي بالطريقةِ التي أقرأ بها الروايات التي أحبها. الروايات التي سحرتني أكثر هي تلك التي وصلت إليَّ ليس عبر القنوات العقلية أو المنطقية، بل أسرتني تمامًا. إنها قصص قادرة على إلغاء جميع قدراتي النقدية، بحيث أجدُ نفسي مشدوهًا ومعلقًا في حالة من الترقب. هذا هو النوع من الروايات الذي أحبُّ قراءته، والنوع الذي أرغبُ في كتابته.

أعتقد أنه من المهم جدًّا أن يذوب العنصر الفكري، الذي لا مفرَّ من وجوده في الرواية، في الأحداث والسرد، بحيث تُسحر القارئ ليس بأفكارها، بل بألوانها، والعواطف التي تثيرها، وعنصر المفاجأة، وبكل التشويق والغموض الذي يمكن أن تولِّده..

 

أثر القراءة العميق

عندما أستخدمُ التاريخ كمادةٍ خام، لا أسعى لأن أكون مخلصًا للتاريخ، على الإطلاق. أنا مخلصٌ للحقيقةِ الأدبيةِ، التي تختلفُ عن الحقيقة التاريخية.. أعتقدُ أنَّ الأدب يشكِّلُ مكملًا للتَّاريخ، فعندما نقرأُ تولستوي، نصدِّق أن الحروب النابليونية في روسيا كانت كما وصفها، وحتَّى لو كانت تلك الأوصاف في «الحرب والسِّلْم»، غير دقيقةٍ، فإن هذه الأفكار، وهذه الخيالات الأدبية، ستظلُّ تتفوق على التاريخ..

ولكن كل التفاصيل الأخرى يمكن للأدب أن يثريها، على سبيل المثال، روايتي «حفلة التيس»، احترمت الحقائق الأساسية لديكتاتورية تروخيو. ولكن كانت هناك أشياء لم أستطع إدراجها في الرواية، حقائق تاريخية كانت غير قابلة للتصديق تمامًا. كان عليَّ أن أقصيها لأن الوحشية، والغباء والقسوة في العالم الحقيقي كان لا يمكن تصورها في إطار رواية أدبية، لأنَّ القوة الإقناعية للرواية كانت ستتضرر تمامًا بسبب تلك الفظائع التي ارتُكبت خلال ديكتاتورية تروخيو.

كان للقراءة أثر كبير عليَّ، لن أنسى أبدًا: كنتُ في الخامسة من عمري عندما انفتح لي العالم بطريقةٍ استثنائيةٍ من خلال القراءة..

ربما كان هذا هو أصل شغفي بالأدب، تلك المتعة التي شعرتُ بها عند قراءة أول كتاب في حياتي. اكتشفت أنَّ القراءة وسيلة لإثراء الحياة..

وكان ذلك أمرًا صعبًا للغاية في ذلك الوقت في أمريكا اللاتينية، بخاصة إذا كنت بيروفيًّا. كان من غير المعقول أن تكرِّس حياتك بالكامل للكتابة. لكن شيئًا فشيئًا، وجدتُ نفسي مدفوعًا في هذا الاتجاه..

كان هذا القرار مهمًّا جدًّا بالنسبة إليَّ، حتى لو كان ذلك يعني أن أضطَّرُ إلى العمل في مجالاتٍ مختلفةٍ إلى جانب الأدب..

تمثل الذَّاكرة جزءًا كبيرًا من خيالي، فلا أستطيعُ أن أبتكرَ أو أتخيَّلَ إلَّا اعتمادًا على الذاكرة، فدائمًا ما تكونُ المادة الخام الأساسية للصور في ذاكرتي هي نقطةُ الانطلاق..

ربما يكون العائق الأكبر الذي أواجهه في عملية الإبداع، هو انعدام الثقة بالنفس. فعلى عكس ما قد يظنُّه البعض، فإن قضاء وقت طويل في الكتابة أو نشر العديد من الكتب لا يمنحني الثقة بالنفس. بل على العكس، يزيدُ من شعوري بعدم الأمان، ربما بسبب النَّقد الذاتيِّ الأكثر حدةً أو الطموح الأكبر. لكن انعدام الثقة الذي أشعرُ به عند بداية كتابة رواية، أو مسرحية أو حتى مقال، أكبر بكثير مما شعرتُ به عند كتابة أعمالي الأولى. ومع ذلك، أعلمُ أنَّني أستطيعُ التغلَّبَ على هذا الشعور بعدم الثقة، بالعمل الدؤوب والمُثابرة.

 

الفن والحياة

السعادةُ تجربةٌ رائعةٌ، لكنها ليست مادة خام لإلهامي الأدبي على الأقل في عصرنا هذا. ربما في الماضي، خلال أوقات معينة، ولكن في عصرنا الحاضر، الأدبُ والفنُّ والإبداعُ تغذيها أكثر التحديات، والسلبية، والخوف، والألم، والاستياء والمعاناة، أكثر من الحماسة أو البهجة أو السعادة. أعتقد أن هذا هو السبب في أن فن عصرنا يحملُ طابعًا دراميًّا ومأساويًّا بعض الشيء، فهو ليس فنًّا أو أدبًا مليئًا بالرضا أو القبول للعالم كما هو. بل على العكس، أعتقدُ أن هناك روح تمرُّد قويةً في جميع مظاهر الفن في عصرنا، وهذا بشكلٍ أساسيٍّ لأن الإلهام يأتي غالبًا مما هو سلبي أكثر مما هو إيجابي في الحياة. فالإبداع الفنِّي وسيلة للتعبير عن نوعٍ من الإحباط أو الاستياء أو حتى الحنين إلى شيءٍ لا تملكه.

الفنُّ شكلٌ من أشكال المعرفة، يساعدك على التعرُّف إلى الحياة التي تعيشها بطريقةٍ أعمق وأكثر كثافة، لأنك عادةً ما تكونُ قريبًا جدًّا من الحياة التي تعيشها بحيث يصعبُ فهمها. لكن الفن يمنحك ذلك الأفق، تلك المسافةُ التي تمكنك من فهم العالم كما هو، وفهم المحركات والآليات التي تختبئ خلف السلوكيات. هذا الوصف للواقع الخفيِّ هو ما يوفرهُ الفن، أكثر مما يقدِّمهُ التاريخ أو علم الاجتماع أو أي علمٍ اجتماعيٍّ آخر.

في النهاية، يكونُ الأمر أشبه بالكاثارسيس، أي إحساس بالتَّطهُّر. تتخلَّصُ من عبءٍ يبدو هائلًا. ولكنك لا تكتشفُ ماهية هذا العبء أو شكله إلا عندما تتمكَّنُ من التعبير عنه من خلال الأدب أو الرسم أو الموسيقى أو أي وسيلةٍ إبداعيةٍ أخرى. قد تشعرُ بسوءٍ شديدٍ من دون أن تعرفَ السبب. وأعتقد أن واحدة من عجائب الفن أنَّه يسمحُ لك بأن تصوغَ وتفهمَ ما هو غامض أو مربك أو مصدر قلق رهيب. ومن الرائع أن ترى أن الفن يعطيهُ شكلًا ويجعلهُ قابلًا للتواصل. كثيرًا ما تكون تلك المشاعر أو الحالات المزاجية مجهولة المصدر، تعاني منها ولكنَّك تفتقرُ إلى تفسيرٍ عميقٍ لها.

 

وظيفة صعبة

في بعض الأحيان، كنتُ أتساءلُ ما إذا كان فعل الكتابة ليس ترفًا انعزاليًّا في بلدانٍ مثل بلدي، حيثُ القرَّاء نادرون، وحيث يعيشُ الكثير من الناس في فقرٍ وأميَّةٍ، وحيثُ تُعتبر الثقافة امتيازًا لقلَّةٍ قليلةٍ. ومع ذلك، لم تثنني هذه الشكوك يومًا عن شغفي بالكتابة، وواصلتُ الكتابة حتى خلال تلك الفترات التي كان فيها كسب لقمة العيش يستهلكُ معظم وقتي. أعتقدُ أنَّني كنتُ على صوابٍ؛ إذ لو كان ازدهار الأدب مشروطًا بأن تحقِّقَ المجتمعات أولًا مستوى عاليا من الثقافة والحرية والرفاهية والعدالة، لما وُجد الأدب أبدًا..

لم يكن تأليف القصص أمرًا سهلًا. فعندما تتحوَّلُ المشروعات إلى كلماتٍ، كانت تذبلُ على الورق، وتفشلُ الأفكار والصورُ في التحقَّق.. لحسن الحظ، كان هناك أساتذة ومعلمون نتعلَّمُ منهم ونماذج نقتدي بها. علَّمني فلوبير أن الموهبةَ انضباطٌ صارمٌ وصبرٌ طويلٌ. وعلَّمني فوكنر أن الشَّكل – الكتابة والبنية – يرفعان الموضوعات أو يبتذلانها. أمَّا مارتوريل وسربانتس وديكنز وبلزاك وتولستوي وكونراد وتوماس مان، فقد أظهروا لي أنَّ الطُّموح والمدى الواسع لا يقلان أهميةً في الرِّواية عن البراعة الأسلوبية واستراتيجية السرد. وبيَّن لي سارتر أن الكلمات أفعال، وأنَّ الرواية أو المسرحية أو المقالة إذا انخرطت في الَّلحظة الرَّاهنة وسعت نحو خياراتٍ أفضل، يمكنها أن تغيِّر مسار التاريخ. أما ألبير كامو وجورج أورويل، فقد ذكَّراني بأنَّ الأدب الذي يخلو من الأخلاق أدب غير إنسانيٍّ، في حين أوضح لي مالرو أنَّ البطولة والملحمة ليستا حكرًا على الماضي، بل هما ممكنتان في الحاضر تمامًا كما كانتا في زمن الأرجوناوت والأوديسة والإلياذة.

على الرغم من أن الكتابة صعبة للغاية وتجبرني على بذل جهدٍ شاقٍّ أشبه بالتعرُّق دمًا، وتجعلني، مثل كل كاتبٍ، مُهدَّدٍ بالشلل، ذلك الجفاف الذي يصيبُ الخيال، فإن شيئًا لم يمنحني متعة في الحياة بقدرِ ما منحني قضاء شهور وسنوات في بناء قصة. قصةٌ تبدأُ ببداياتٍ غامضةٍ، كتلك الصورة التي تحفظها الذَّاكرة عن تجربةٍ عاشها المرء، والتي تتحولُ إلى قلقٍ، وحماسةٍ، وحلمِ يقظةٍ، ثم تبدأُ بالنمو لتصبحَ مشروعًا مقرونًا بقرارٍ لتحويل تلك السَّحابة المليئة بالأشباح الهائمة إلى قصةٍ. قال فلوبير: «الكتابة أسلوب حياة». نعم، بكل تأكيد، إنها أسلوب حياة مليء بالوهم والفرح، ونار تشتعلُ فتطلقُ شراراتها في رأسك، حيث تصارعُ الكلمات العنيدة حتى تخضعها..

هناك شيءٌ ما في حياة الروائيين يدفعهم إلى التُّوقِ الشديد لعالمٍ مختلفٍ عن العالم الذي يعيشون فيه، عالم يجدون أنفسهم مجبرين على بنائهِ بالكلمات، ويطبعون عليه، عادةً بطريقةٍ مشفَّرةٍ، تساؤلاتهم حول الحياة الواقعية وإيمانهم بوجود واقعٍ آخر، سواء كان ذلك بدافعِ أنانيتهم أو سخائهم، ليحلَّ محلَّ العالم الذي قُدِّر لهم أن يعيشوا فيه.

أمَّا، الروائي الذي لا يكتبُ عمَّا يُحفزَّهُ ويشعلُ إلهامه في أعماقه، والذي يختارُ موضوعاته أو أفكاره ببرودٍ وعقلانيةٍ فقط لأنه يعتقدُ أن ذلك سيزيدُ فرص نجاحه، فهو كاتبٌ غير أصيلٍ، وعلى الأرجح روائي سيئ.

يكون المرء مستعدًا لاستغلال أفضل وأسوأ ما فيه وما في الأشخاص من حوله، وكل ذلك من أجل العثور على تلك التجارب الشخصية الواقعية التي تنطلق منها أعماله الروائية. ولكن، بعد رسم ملامح رواية مستندةً إلى هذه التجارب الحقيقية، يأتي دور الخيال والإبداع لصياغة العمل النهائي، حيث وصف الحدث أو الشخص الواقعي بأنُّه مجرد نقطة البداية، وليس نقطة الوصول..

 

++++++

 

مؤطر 1

طقوس الكتابة عند ماريو يوسا

 

1-أكتبُ كل يومٍ، وذهني دائم النشاط، وأحتاجُ دائمًا إلى هذه الاستمرارية، وإلا فلن أتمكنَ من إنهاء كتابٍ..

الكتابة هي حياتي، أستمتع بها، حتى لو كانت صعبةً أحيانًا. أفكِّرُ بالإسبانية، لكن يمكنني القراءة بخمسِ لغاتٍ..

 

2-أعملُ بطريقةٍ منضبطةٍ للغاية، أشبه بموظفٍ مكتبيٍّ، حيث أعملُ ما بين ست إلى ثماني ساعات يوميًا. وأفضل ساعات العمل بالنسبة لي دائمًا هي الساعات الأولى من اليوم.

 

3-أعيدُ الكتابة كثيرًا. في الواقع، ما أحبه حقًا هو إعادة الكتابة. المسودَّةُ الأولى دائمًا صعبة جدًّا وغير مؤكدة. ثم أقرأُ وأعيدُ الكتابة لساعاتٍ طويلةٍ، يدويًّا، وبخطِّ اليد، حتى المقالات الصحفية تُكتب يدويًّا، بقلم الرصاص وليس بقلم الحبر..

 

4-أنا دائم الانشغال، ولا أتوقَّفُ أبدًا، حتى أثناء السفر. أكتبُ يدويًّا، وأُحبُّ حركة القلم على الورق؛ فإيقاعِ اليد هو إيقاع العقل.

 

5-لا أحبُّ القراءة على الشاشة. أحبُّ رائحة الورق، فالكتابة مُخصَّصةٌ للكتب، أما الشاشة فهي شيء مختلف. بالنسبة للكتب العظيمة، تبدو الشاشة سطحية وتفتقرُ إلى الرُّوح. لا أعتقد أن روايات فوكنر أو تولستوي يمكن أن تُقرأ ككتبٍ إلكترونية، حتى أنَّ مبيعات الكتب الإلكترونية الآن في انخفاضٍ..

 

 

++++++

مؤطر 2

من نصائح ماريو يوسا للروائيين

 

  • فقط أولئك الذين يدخلون عالم الأدب كما لو كانوا يدخلون دينًا، مستعدِّين لتكريس كل وقتهم، وطاقاتهم وجهودهم لهذه الدعوة، هم القادرون على أن يصبحوا كُتَّابًا حقيقيين ويكتبوا أعمالًا تتجاوزهم وتخلِّدهم.

 

2- لا وجود لروائيين موهوبين بالفطرة. جميع الروائيين العظماء كانوا في البداية كُتَّابًا مُتدربين، صُقلت مواهبهم بالاجتهاد والإصرار والاقتناع.

 

3- الأدب أفضلُ اختراعٌ أُبدع لمواجهة الشقاء.

 

4- في كل عملٍ خياليٍّ، حتى في أكثر لحظات الخيال تحررًا، يمكن تتبُّع نقطة انطلاقٍ، بذرة حميمية مرتبطة جوهريًّا بتجارب الشَّخص الذي أبدعها، ولا استثناء لهذه القاعدة.

 

5- الرواية، بحكم التعريف، خدعةٌ، واقعٌ غير موجودٍ، لكنه يتظاهرُ بأنُّه موجود، وكل روايةٍ كذبةٍ تتقمَّصُ هيئة الحقيقة. تعتمدُ قوة إقناعها بالكامل على الاستخدام الفعَّال لمهارات الخداع والحيل الأدبية، التي تشبه تلك المستخدمة من قِبل السحرة في السِّيرك أو المسرح.

 

6- أصالة الروائي أو صدقه تتجلَّى في معرفته لشياطينه وخدمته لها بقدر ما يستطيعهُ من قوة..

 

7-الروائي الذي لا يكتب عن الأشياء التي تُلهبه وتُثيره في أعماقه، بل يختار الموضوعات والقضايا ببرودٍ وعقلانيةٍ معتقدًا أن هذا هو الطريق الأسهل لتحقيق النجاح، هو شخصٌ غير أصيلٍ، وغالبًا ما يكون روائيًّا ضعيفًا (حتى لو حقَّق النجاح: قوائم الكتب الأكثر مبيعًا مليئة بروائيين سيئين للغاية).

 

8- الرواية السيئة والتي تفتقر إلى قوة الإقناع، لا تجعلنا نصدِّقُ الكذبة التي تحاولُ أن ترويها.

 

9- قد تكون القصة داخل الرواية غير متماسكةٍ، لكن اللغة التي تصفها يجبُ أن تكون متماسكة، حتى تتمكَّنَ الرواية غير المتماسكةِ من التظاهر بالواقعيةِ وتكتسبُ حياة.

 

10- في الأدب، الصدق أو عدمه ليس مسألة أخلاقية، بل جمالية. الأدب فنٌّ خالصٌ من الحيلة، لكن الأدب العظيم يخفي هذه الحيلة.

 

 

 

 

ماريو فارغاس يوسا (1936- 2025)

روائي وصحافي وأستاذ جامعي بيروفي حائز على جائزة نوبل في الآداب عام 2010

 

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى