
يسرا طارق
حين كنا صغيرات وصغارًا، لم يكن باستطاعتنا تقويم عمل المعلمات والمعلمين، كانوا بالنسبة لنا سواسية في أداء واجبهم، ما كان يشد انتباهنا هو الكيفية التي يتصرفون بها معنا، وكيف يلبسون ويمشون ويضحكون ويغضبون وحين نعود إلى البيوت، نحاول أن نقلدهم في كل شيء. كانوا بالنسبة لنا قدوة. نراهم في الخارج ونهرب لكي لا نريهم أننا نلعب أو نلهو، يكلموننا فنخجل وننكس رؤوسنا، وحين ننجز مهمة كلفونا بها نفرح لذلك كثيرا. نحلم بالمعلمات والمعلمين، ونحمل صورهم التي نقشت في أذهاننا إلى الأبد، ولو أنني من جيل لم يدخل المدرسة ليتلقى التعليم على يد رجال تعليم يلبسون البذلة وربطة العنق كأنهم ذاهبون إلى حفل، نساء ورجال كانت المهنة عندهم مقدسة، والصورة التي يقدمونها عنها أقدس، ورغم ذلك أدركت بعضا من مجد المهنة الضائع، حين كانت المعلمة والمعلم نموذجا وقدوة ومصدر إلهام.
ما أدرك نساء ورجال التعليم طال أغلب المهن تقريبا. كانت لبعض المهن في المجتمع هالة كبيرة، ويكفي أن يعلن الواحد أنه ينتسب لهذه المهنة أو تلك، ليكون مصدر ثقة وتبجيل واحترام. كانت للمهن أخلاقها ومنظومة قيم، على من ينتسب إليها أن يتقيد بها، كانت لها حتى اشتراطات في المظهر والسلوك، يتقيد بها من ينتمي إليها في الفضاء العام. كانت نساء ورجال بعض المهن يقودون المجتمع، تراهم في العمل السياسي والنقابي والحقوقي، تراهم يخطبون ويوجهون، تراهم يسيرون وجموع تتبعهم، كل هذا انتهى الآن، أو يكاد. لقد تلوثت معظم المهن بدخلاء لا يقدرون المهنة حق قدرها، ولا يلتزمون بواجباتهم تجاهها، وأحيانا يتصرفون وكأنهم أتوا ليهدموا المهنة ويلوثوا صورتها. لم يعد من المستغرب أن تسمع عن جرائم ضبط فيها أفراد، لم يكن أحد، حتى الماضي القريب، يتخيل أن أمثالهم سيتورطون فيها. إننا نعيش أزمة قيم مستفحلة، وما الفساد الذي ينخر شرايين المؤسسات والمجتمع، والذي يضيع على البلد فرص التنمية والعدالة والمساواة، إلا أحد المظاهر الكبرى لهذه الأزمة.. علينا أن نتحلى بشجاعة مسح الطاولة والعودة مجددا إلى مدرسة لا تعطي المعلومات والمهارات، وإنما تعطي، بالأساس، الفضيلة والقيم. بناء الإنسان السوي المتخلق والوطني يبدأ من المدرسة، ومن كل ما يحيط به فيها: شكل القسم، الإدارة، المراحيض، صورة المعلمة أو المعلم، لباسهما، سلوكهما، المادة القيمية التي ينقلانها للمتعلم، بغير هذا سنستمر في الانحدار، وسنستفيق، في يوم ما، على مجتمع مسخ بلا هوية..