
التدريب في بنسليمان
لا أقول إنني فارقتُ ولي العهد واتجهتُ صوب التدريب العسكري، لكن الواقع أن سمو الأمير، مولاي الحسن، كان كثير الانشغال في فترة 1959، وكان السياق السياسي آخذا في الاحتقان. كما أن واقع أسرة جيش التحرير، خصوصا في الشمال، بعد اغتيال عباس المساعدي، كان بدوره يأخذ مسارا آخر. وحز في نفسي كثيرا ما آلت إليه الأوضاع، سيما وأن الكثيرين، ممن أحتفظ لهم بذكريات طيبة، تم إقصاؤهم.
ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، استنكر بشدة ما آلت إليه الأمور داخل أسرة جيش التحرير، وظهور تيار تغوّل بعد الاستقلال وحاول السيطرة على أسرة المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وحاول قيادة البلاد نحول الانفلات، ولم يتردد في اغتيال خيرة الوطنيين، أمثال عباس المساعدي وإبراهيم الروداني، الذي طالما اعتبرته -ولا أزال- أب المقاومة المغربية.. بل إن الزعيم علال الفاسي بدوره، بعد عودته من القاهرة واستقراره في المغرب، لم يكن يعجبه ما يقع سواء داخل حزب الاستقلال أو خارجه. وكان رحمه الله يعبر لنا عن هذا الأمر في كثير من اللقاءات.
كانت الأزمة الحكومية، بعد حكومة بلا فريج، وإقالة حكومة عبد الله إبراهيم وانتشار الأخبار عن خلاف بين القصر وحزب الاستقلال، كلها تزيد من «تسميم» الأجواء. وأرى أنه من مسؤوليتي التاريخية أن أقول إن سي علال الفاسي، رحمه الله، لم يكن راضيا عما يقع في تلك الفترة، نهائيا.
والمؤسف، أيضا، أن عمليات تشويش على أسرة المقاومة كان مصدرها بعض الأشخاص. وهنا أستحضر واقعة فقط، من باب الاستئناس، وكان بطلها علال بنعبود، الذي ينحدر من عائلة بنعبود المعروفة.
فوجئتُ به ذات يوم، في مرحلة بداية التحاق أعضاء جيش التحرير بالجيش الملكي، يترأس جماعة من الناس، وجاء يقول إنهم جميعا أعضاء في جيش التحرير، ولم نرهم أو نسمع بهم من قبلُ. وأجبته وقتها بأن ما يحكيه يفتقر إلى المصداقية، وأخبرته أن مسألة أعضاء جيش التحرير قضية مضبوطة ولا يمكن التلاعب بها.
هذه واقعة واحدة فقط، من بين وقائع أخرى، شوشت على أسرة جيش التحرير والمقاومة عموما بعد الاستقلال.
وأذكر مرة أن الدكتور عبد الكريم الخطيب ثار عندما علم بمساعي بعض المتحزبين لتأسيس تيار لجيش التحرير، وصرخ في الحاضرين قائلا: «جيش التحرير جيش الملك وليست لأي حزب يد عليه».
وحتى نُغلق هذا القوس المتعلق بمحاولات تقزيم دور جيش التحرير والتشويش عليه، أذن لي ولي العهد بأن أغادر صوب ثكنة بنسليمان، لأستفيد من التدريب العسكري اللازم، على يد خيرة أطر الجيش الملكي الذين سبق لهم الاشتغال في صفوف الجيش الفرنسي. وأصبحنا تحت إمرة الجنرال الكتاني رحمه الله. وهذا الهرم يستحق لوحده أن يكون موضوع كتابات كثيرة لتسليط الضوء على شخصيته. فقد كانت له أياد بيضاء علينا نحن الملتحقين بالجيش الملكي.
كان معي في التكوين كل من حسن الزموري، وبن البقال وبن الميلودي وهم ينحدرون جميعا من مدينة الخميسات. وبن المليودي، بشكل خاص، كان أشهر من نار على علم، وجمعتني به ذكريات كثيرة في منطقة الشمال، وخاض مغامرات كثيرة كادت أن تودي بحياته في سياق عصيب يتعلق بأزمة جيش التحرير بعد الاستقلال.
كانت معرفتي بهؤلاء تعود إلى أيام اللجوء في تطوان واجتمعنا في مرحلة التدريب بعد التحاقهم بصفوف الجيش الملكي.
وقبل أن أتفصل أكثر في مرحلة التدريب العسكري، لا بد أولا أن أشير إلى حقيقة تاريخية مهمة. وهي أن الهلال الأحمر الجزائري تأسس في المغرب، بل وفي مدينة بنسليمان بالضبط! وحضرتُ، إلى جانب رفاقي في التدريب، لمراسيم هذا التأسيس، الذي ترأسته سمو الأميرة للا عائشة رحمها الله.
الأميرة للا عائشة وتأسيس الهلال الأحمر الجزائري
خلال بداية التحاقي بالجيش الملكي، متدربا في مدينة بنسليمان العسكرية، جرى استدعاؤنا نحن المتدربين لنحضر حفلا تترأسه الأميرة الجليلة للا عائشة رحمها الله.
وأذكر أن عامل المدينة، وكان وقتها هو عبد الحميد الزموري – أحد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، وأصبح في ما بعدُ وزيرا في عهد الملك الحسن الثاني- كان حاضرا خلال الحفل، وفيه تم الإعلان عن تأسيس الهلال الأحمر الجزائري، وعُينت السيدة الجزائرية عائشة بنگاسم رئيسة له. وهي ابنة سيدة معروفة جدا في المغرب وقتها، واسمها «الميمة». حتى أن عائشة كانت معروفة أيضا باسم «عيشة بنت الميمة».
كانت «الميمة» الجزائرية تقيم في المغرب، وزوجها أيضا، وتربط علاقات مع شخصيات مغربية هامة، وكانت عائشة تحظى برعاية الأميرة للا عائشة وعطفها.
وعائشة بنگاسم هي التي اتصلت بنا نحن الضباط، وأخبرتنا أن الأميرة للا عائشة ستأتي إلى بنسليمان لتعطي انطلاقة تأسيس الهلال الأحمر الجزائري، ودعتنا لحضور الحفل.
ولا زلت أذكر أجواء ذلك الحفل. فقد نُصبت خيمة كبيرة لاحتضان الحاضرين. وخلال مراسيم الحفل أعلنت الرئيسة، بعد تعيينها، أن الأميرة للا عائشة تبرعت من مالها الخاص لإنشاء الهلال الأحمر الجزائري، وكانت تلك انطلاقته.
ومن المؤسف اليوم أن تغيب هذه الحقيقة، التي كنتُ بمعية زملائي الضباط شهودا عليها، وتُقبر. إذ لا وجود اليوم لأي إشارة لدى الجزائريين تفيد بأن الهلال الأحمر الجزائري تأسس في المغرب، فالأحرى أن يُشار إلى الأميرة للا عائشة التي كانت وراء إطلاقه.
ومما يثير الاستغراب أن بعض المراجع الجزائرية تقدم رواية -بل روايات متضاربة- لا علاقة لها بالحقيقة بشأن إطلاق جمعية الهلال الأحمر الجزائري، وتُرجع تاريخها إلى فترة الخمسينيات، دون الإشارة إلى دور الأميرة للا عائشة. كما أن اسم أول رئيسة للجمعية، عائشة بنگاسم، لا تتم الإشارة إليه نهائيا، رغم أنها مواطنة جزائرية، بل يُشار إلى اسم آخر نُسب له هذا التأسيس.
ومن الروايات الجزائرية الرسمية أن الهلال الأحمر الجزائري تأسس سنة 1956 -وهناك رواية أخرى تقول إنه تأسس سنة 1954- في أيام الثورة. وهذا الأمر غير صحيح. إذ أن واقع الجزائر في ذلك الوقت لم يكن يسمح نهائيا بتأسيس الجمعيات، بحكم اعتبار البلاد مستعمرة فرنسية. وكل الأنشطة الرئيسية والمهمة، لقيادة الثورة الجزائرية، تمت في المغرب، وبالضبط في منطقة الشمال، وعشنا مع الإخوان الجزائريين تفاصيل تأسيس هذه الأنشطة، ولم يحدث نهائيا أن كان بينها أي نشاط للهلال الأحمر.
فإذا كانت الاجتماعات المصيرية للثورة الجزائرية، وقيادتها، تمركزت ما بين الناظور ووجدة وتطوان، فكيف يمكن أن يتأسس الهلال الأحمر في الجزائر؟
وحتى إن كان الجزائريون اليوم لا يعترفون بحقيقة تأسيس الهلال الأحمر الجزائري في المغرب، قبل استقلال بلادهم عن فرنسا، فإن حقائق التاريخ لا يُمكن أبدا أن تُمحى بهذه السهولة.
نافذة: عائشة بنگاسم، التي عُينت أول رئيسة للهلال الأحمر الجزائري، اتصلت بنا نحن الضباط وأخبرتنا أن الأميرة للا عائشة ستأتي إلى بنسليمان لتعطي انطلاقة تأسيس الهلال الأحمر الجزائري، ودعتنا لحضور الحفل.
ولا زلت أذكر أجواء ذلك الحفل. فقد نُصبت خيمة كبيرة لاحتضان الحاضرين. وخلال مراسيم الحفل، تم الإعلان عن أن الأميرة للا عائشة تبرعت من مالها الخاص لإنشاء الهلال الأحمر الجزائري، وكانت تلك انطلاقته