البوصلة الأخلاقية
بقلم: خالص جلبي
الإنسان ليس شيطانا ولا ملاكا، بل هو إنسان قبل كل شيء يخطئ ويصيب، يذنب ويتوب، ينزل ويرتفع، لا قعر لهبوطه، ولا سماء لارتفاعه، لا حافة لنذالته ولا حدود لكرامته. إذا قيس إلى اللانهاية فهو لا شيء، وإذا قيس إلى العدم فهو كل شيء، فهو معلق بين حافتي العدم واللانهاية، بين طرفي الخير والشر، بين قطبي الشيطان والملاك، هو ترابي زائل وحقيقة خالدة، وشبح متحرك، وحي ميت على الدوام. في كل لحظة يموت ويحيا، ينهدم ويتجدد، في حالة صيرورة دائمة، وحركة لا تنتهي، يخطفه الموت، وتبقى آثاره تعمل متمسكة بالخلود مستعصية على الفناء، شديد الهشاشة، عظيم القساوة، تسحقه هبة غبار ولفحة نار وفيروس تافه من نموذج كورونا الذي ضرب سكان الأرض فهم مبلسون، ولكنه يسخر الكهرباء والنار، المغناطيس والبخار، يذيب الحديد ويحفر الصخر، ينسف الحجر والجلمود، ويفجر قوى الذرة العاتية وهو لا يراها. هو قمة التقوى وحضيض النفايات، هو معتنق المقدس ومرتكب الحماقات والضلالات، سافك الدم محيي العدل، فيه تألق الجمال وعربدة الإجرام، لغز الوجود وسر الكون. يا ترى أين بوصلته الداخلية؟ وكيف يتأتى إصلاحها عند الخلل؟ وصيانتها ضد التفاهات والروتين القاتل وملل الحياة وضغط الأحداث؟
تقدم إلينا رجل طويل القامة، جميل الهندام، حليق الوجه، ذو سحنة جميلة، وشاربين عريضين، وقدمه إلينا أستاذنا ثم فاجأه بالسؤال: تفضل وأخبر الأطباء من حولك عن سبب قتلك للضابط العميد، بدأ الرجل المهذب يتكلم بأسلوب واضح، وعبارات طليقة، ولغة مسترسلة: قتلته لأنه كان يتآمر علي!
قاطعه الأستاذ سائلا ما هي رتبتك في الجيش؟ أجاب: مساعد أول! سأله الأستاذ وكيف قتلته؟ أجاب قائلا: لقد عبأت مسدسي (ثم وبعبارة لا تخلو من الاعتداد بالنفس) لم أشأ قتله غدرا من الخلف، بل طلبت منه الاستدارة وقتلته مواجهة!
كان هذا عندما كنا طلابا في كلية الطب في الصف الخامس، حيث بدأنا في اكتشاف عالم جديد في الطب هو غير ما تعلمناه من العلوم الطبية، سواء منها ما قبل السريرية من أمثال تشريح العظام، وإفراز الهرمونات، وآليات الاتزان في البدن، أو عالم الأمراض السريرية من أمثال فقر الدم، والتهاب الزائدة الدودية، وأورام الكولونات، وكسور العظام. كان هذا العالم هو (الطب النفسي).
نقلنا إلى عالم جديد هو العالم المعنوي، والقطاع الروحي، وآليات الفكر، والقوانين النفسية، التي لا تقاس بميزان الحرارة، ولا ترى بأشد المجاهر تكبيرا، ولا توزن بأشد موازين العالم حساسية، لا تشم ولا ترى ولا تسمع، لا تلمس، ولا تجس. ليست نبضا شريانيا، أو قصورا في الغدة الدرقية، أو اضطرابا في الحموضة والقلوية.
كان ذلك اليوم بالنسبة إلي صدمة روحية لم أستفق منها بسهولة، لهول ما رأت عيني. في تلك الساعات القليلة عانيت من مشاهدة انهيار كامل لعالم مقدس، وكانت هذه الساعات القليلة هي الانعطاف الثاني في حياتي، في رؤية الإنسان من منظر مغاير، ومشهد انقلابي، ودمعت عيناي مرة ثانية كما دمعت من قبل، عندما وقع نظري على أول جثة إنسانية أوقعها حظها تحت مشارطنا فاستسلمت بدون مقاومة، وبقيت تنقص وتقطع، تضمر ويتغير لونها، ونحن نكتشف فيها ممرات الأعصاب، وأقنية الشرايين، حتى وصلنا إلى العظام وهي رميم، وتلك الجثة لا تنطق حرفا ولا تشكو بردا أو عريا أو ألما. لم نعرف من أين جاءت، ولا كيف عاشت وعانت، تعرفنا فيها على كهوف الجمجمة وكيف تتصل العضلات وأين تستند الأوتار وأين تختبئ الأوعية ومسارب الأعصاب.
أما اليوم فقد اكتشفنا ووصلنا إلى ما لم نصل إليه من تلك الجثة المسكينة، لأنني وجدت مع ذلك الرجل الذي فقد المجال المغناطيسي الروحي، واختلت بوصلته النفسية، أن أعظم شيء يفقده الإنسان على الإطلاق هو ذلك الاتزان العقلي الروحي. وعرفت أن فقد المال والعقار، بل الصحة والجمال ليست شيئا، بل ولا تقارن بهذه الهوة الجهنمية التي قد يهوى إليها الفرد بانحداره إلى المرض النفسي.
استندت بذقني على كفي أتأمل الرجل كالمصعوق ولا أكاد أصدق!
كيان جديد سحري هلامي يغلف كلامنا ولا يرى، يتجلى من خلال كل حركة منا فلا يبصر، يدخل في كل تجويف، ويلتصق مع كل تلفيف في كياننا فلا يدرك.
أي عالم رائع خلاب هذا ذلك العالم الآخر، النشأة الأخرى، الخلق الجديد، البعد الجبار، القفزة النوعية (ثم أنشأناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين).
كان الرجل مصابا بداء الزور، البارانويا (PARANOIA).