الرأي

الحزن والخوف

بقلم: خالص جلبي
عندما بحث عالم النفس الأمريكي (برايان تريسي) مظاهر الصحة النفسية للفرد، اختصرها في ستة عناصر رئيسية توجها بعنصر يشكل العمود الفقري فيها ما سماه بـ(السلام العقليPEACE IN MIND)، ويرى أن أهم مظاهره أن ينام الإنسان خالي البال من عقدة الذنب والخوف، وهو ما يذكرنا بالقرآن الكريم، الذي بشر بتحقيق نموذج متفوق متحرر من عقدتي (الخوف) و(الحزن): «ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون»، في تكرار ملح في عشرات الآيات المتناثرة؛ لخلق هذه الحالة النفسية المتحررة من ضغط هذين الشعورين. ولكن لماذا وصل علم النفس إلى هذه الحقيقة الملحة؟ وما هي أهمية الخلاص من قبضة هذين الشعورين السلبيين؟ وما معنى تشديد القرآن على إيصال الروح الإنسانية إلى هذه العتبة المقدسة، التي تحلق فيها النفس وتنعتق من ضغط الضرورات، وتقوم بتطويق الأحداث، بدل الوقوع في قبضة الوقائع وتحت تأثير ظلها السلبي.
لعل أهم انفعالين يكبلان تصرف الإنسان هما الخوف والحزن، بما يشبه الكوابح أو الفرامل للانطلاق في الحياة، فأما الحزن فهو ذو أثر رجعي يشد الإنسان للماضي وما طُوي في ملف الأحداث المنصرمة «لكيلا تأسوا على ما فاتكم»، وأما الخوف فهو السحب القاتمة القادمة، مع وحدات الزمن الزاحفة تجاهنا، التي تجلل السماء الصافية في ذهن الإنسان؛ فتحرمه من الهدوء النفسي والاتزان في التفكير.
وترجع أهمية هذين الشعورين من كونهما تجميد للنفس وانحباس لها في مربعات الزمن، فمع الحزن تنحجز النفس في سجن الماضي، فلا يحزن الإنسان لشيء لم يقع ويزحف باتجاهه، بل يقع في قبضة شعور وانفعال سلبي من نوع مختلف، في مثل الحركة الهندسية واتجاهاتها، فيسقط ضحيةً لشعور القلق.
أما الحزن فهو إفراز تابع لأحداث طواها الزمن وشيعتها الأحداث، مثل موت عزيز أو انهيار مالي أو خسارة منصب. في حين أن الخوف حالة نفسية من الاضطراب؛ تجاه أحداث قادمة باتجاهنا لم تولد بعد وتبصر النور. فهذا الوضع من القلق والحيرة مما سيحدث مستقبلا هو الذي يقود الى الخوف، وهذا بدوره يقود إلى شعور تال مثل الانسحاب والتخفي والهرب، في حلقة جدلية، فالفرد يهرب لأنه يخاف ويخاف لأنه يهرب، في علاقة عكسية متبادلة، وكما قال عالم النفس السلوكي (سكينر): «إن كل شعور يقود إلى شعور آخر «فالشعور بالخيبة مثلا يولد العدوانية» وإن المشاعر تتفاعل، وإن المشاعر التي تطرح خارج الذهن تناضل لكي تعود إليه بالقوة». وعندما يستولي شعور الخوف على الطفل من الكلب الذي ينبح خلفه فهو يركض، يعاني من شعور ممض وإحساس موحش غريب مزعج؛ لتوقع أحداث قادمة لم تقع، من عض أو جرح أو موت، ويعتبر شعور الخوف من الموت قمة الهرم لشعور الخوف في الحياة.
إن الذي يواجه أو يفكر بالموت يتحرك عنده شعور «قلق الموت» من خلال مزيج من الرؤى والانفعالات لما سيحدث مع الموت أو بعده، من مصير مجهول، أو معاناة ممزوجة بالألم، أو شعور بالتلاشي والذهاب إلى زاوية النسيان، فقلق الموت كما رآه الفيلسوف الرواقي (إبيكتيتوس) مرده إلى أفكارنا تجاهه، أكثر من حقيقته بالذات.
يقول الفيلسوف: «ليس الموت مفزعا وإلا لبدا كذلك لسقراط، لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت، أي أن هذا المفهوم هو المفزع، فليس الموت أو الألم هو الشيء المخيف وإنما خشية الألم أو الموت»، فهذا هو لغز الموت الأكبر؛ فلم يرجع أحد فيخبرنا بما عانى وأين رسى مصيره؛ وكل واحد منا يذوق كأس الموت منفردا، منهارا باتجاه السلبية المطلقة، في رحلة أبدية لا عودة منها على الإطلاق، يخسر فيها حتى شكله الخارجي وقميص البدن، يتحطم فيها بدون توقف، حتى يتسلمه التراب بالكامل عظاما ورفاتا؛ قد عاد إلى دورة الطبيعة متحللا إلى الذرات الأصلية الأولية. فأما الغازات فقد انطلقت إلى السماء تعانق السحب، وأما المعادن فاختلطت بتراب الأرض راجعة من حيث خرجت. هذا القدر طوى البشر منذ أن دب الإنسان على الأرض؛ فكان مصير ثمانية مليارات من البشر حتى الآن.
إذا حالة الحزن هي التجمد في الماضي، والخوف هو التجمد في الحاضر نفسيا، وكلاهما حالة غير سوية في السياق الكوني، كما في التصلب الشرياني، فإذا كانت حالة تصلب الشرايين حالة مرضية، فهناك في عالم النفس ما يشبه ذلك من التصلب الروحي (PSYCHOSCLEROSIS).
وإذا كانت آثار التصلب الشرياني ذات نتائج مأساوية على الحالة العضوية، من رفع الضغط وارتخاء القلب وانسداد الشرايين ونزوفات الدماغ، كذلك في حالة التصلب النفسي أو حالة التجمد في الزمن، من خلال استيلاء شعوري الخوف والحزن على النفس؛ فهي حالة لا تتوافق مع طبيعة الحياة التي تعتمد مبدأ الحركة والتغير الدائمين، فكما أن آليات تشكل مختلف الصور في الحياة المتدفقة بدون توقف، كذلك فإن قانون التشكل والنمو يقابله قانون الانحلال والموت، في دورة متكاملة تعيد نفسها بدون توقف، يقنصها الموت وتدفعها الحياة المسيطرة على ساحة الوجود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى