
حسن طارق
لا بد في البداية من التعبير عن سعادة مزدوجة: بالنظر أولا إلى وجودي في فعالية جمعوية لمنتدى المواطنة، الإطار الجمعوي الذي رافقته منذ قرابة ثلاثة عقود: الزمن الكافي لاختبار عمق الصداقات ورسوخ القناعات، والزمن الممتد والممتلئ بالحوارات والأفكار والقيم ضمن أفق واحد، هو الالتزام بتنمية المواطنة والتربية على الديمقراطية. ثم ثانيا بالنظر إلى تخصيص هذه الدورة لمؤسسة الوسيط كموضوع مركزي للتفاعل مع الشباب، في سياق برنامج أوسع يشمل سؤال المجتمع المدني والمؤسسات الوطنية.
وإذا كان برنامج هذه الدورة سيسمح بالتأكيد – بالنظر إلى كثافته وتعدد محاوره- بالوقوف مليا على موقع الوسيط ضمن النسيج المؤسسي لبلادنا، وبفهم أدواره الدستورية في الدفاع عن المواطن في إطار علاقاته المرفقية، وبتمثل وظائفه كهيئة من هيئات الحكامة وإحدى المؤسسات الوطنية المستقلة، فإنه من المفيد أن أقدم بعجالة في هذه الكلمة التمهيدية بعض عناصر التفكير في الشعار المركزي الذي تشتغل في ضوئه الأكاديمية السياسية للشباب هذه السنة، والمتمثل في ممكنات العلاقة بين المجتمع المدني والمؤسسات الوطنية.
لقد شكلت المؤسسات الوطنية في خريطة التطور المؤسسي المغربي، وخاصة انطلاقا من بدايات التسعينيات – عندما أخذت سلطة الاستشارة بعدا أكثر فعالية وتأثيرا، سواء في اتجاه صناعة السياسات، أو في اتجاه تدبير الحوار العمومي- مع تجربتي المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والمجلس الوطني للشباب والمستقبل، لحظة مفصلية في مواكبة تطلعات مجتمع مدني ناهض كان قد بدأ يجد التعبيرات المناسبة ليرسخ حضوره خارج ثنائية الدولة والمجتمع السياسي.
وإذا كان المجتمع المدني الناشئ حينها قد بدا محمولا فوق أجيال شابة بمطالب وأفكار جديدة وبصيغ عمل وأشكال للتعبئة مبتكرة، فإن المؤسسات الوطنية في لحظة انبعاثها الثانية بعد مسار طويل من الهشاشة والتردد – امتد من بداية الاستقلال إلى نهاية الثمانينيات – قد شكلت عمليا أحد التحولات الكبرى للأداء المؤسسي للدولة، والتي سمحت بحالة من إعادة التكيف الوظيفي الذي مكن من اختراع مساحات جديدة من التفاعل بين الدولة والمجتمع خارج الدورة التقليدية لاستقبال ومعالجة الطلب الاجتماعي.
في الواقع، فإن ما يجمع بين سياقات نشأة كل من المؤسسات الوطنية والمجتمع المدني، في التاريخ الراهن للمغرب السياسي، ليس مجرد تزامن فاقد للدلالة، بل هو في العمق انسجام بين ديناميتي تطور المجتمع من جهة والدولة من جهة أخرى. لقد أفضى ذلك إلى استثمار الذكاء الجماعي في بلورة فضاءات مشتركة للحوار والتقاسم والإدماج والمشاركة والانفتاح، تسمح داخل سقف المشترك الوطني وبعيدا عن إكراهات الزمن الانتخابي، بتقاطع حجج التدبير العمومي مع الخبرة الجامعية والمطالب المدنية.
إذا كان المجتمع المدني هو القاعدة الاجتماعية للديمقراطية التشاركية، من زاوية الطلب الجمعوي والمواطناتي على المشاركة، والتأثير في السياسات والدفاع عن حاجة المجتمع إلى التنظيم، وهيكلة تطلعاته، ومنحها صوتا مسموعا داخل الفضاء العمومي. فإن المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، وضمنها هيئات الوساطة، تمثل تعبيرا مؤسسيا لهذه الديمقراطية التشاركية وتجسيدا لهذا الطلب على المشاركة والتأثير في القرار العمومي.
ويبدو المجتمع المدني، من حيث الهوية والاهتمامات والطبيعة العضوية، هو الأقرب للمؤسسات الوطنية، باعتبارها ابتكارا في دينامية تحولات هندسة الدولة الوطنية، يسمح في العمق بتأمين أشكال جديدة للتفاعل مع المجتمع، خارج ما تضمنه تقليديا القنوات الانتخابية والسياسية، أو الآليات الإدارية والتنظيمية، منفتحة بذلك على صيغ للمشاركة المواطنة خارج دورات ولاية التمثيل النيابي، أو مساطر التأطير الإداري المباشر.
ليس من الغريب أن هيئات الوساطة، في الكثير من التجارب المقارنة، تعتمد على منظومة دعم متكامل من فعاليات المجتمع المدني لتمثيلها في نقاط القرب المحلي من المرتفقين، حيث يصبح المجتمع المدني بمثابة امتداد عضوي ووظيفي للوساطة المؤسساتية.
وغير بعيد عن ذلك، تمثل تجربة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، على مستوى العضوية المركزية بالمجلس أو عضوية اللجان المحلية، حالة لمأسسة انفتاح منظم لهيئات الحكامة على فعاليات المجتمع المدني.
في مرجعية ذلك، يصبح هذا الانفتاح في الوقت نفسه مؤشرا على فعالية المؤسسات الوطنية ذات الطبيعة الحقوقية وأحد عناصر تقييم أدائها وهندسة بنائها التنظيمي، وكذا دليلا على استقلالياتها. ذلك أن ارتباطها بدينامية المجتمع، وجعلها آلية منفتحة على المبادرة المدنية والمواطنة، يبقى في الخلاصة عنصرا من عناصر تحصين هويتها الاستقلالية.
لا بد في هذا السياق من استحضار مقتضيات المادة 18 من القانون رقم 14.16 المنظم لمؤسسة وسيط المملكة، والتي تمكن الجمعيات -إضافة إلى أعضاء البرلمان ورؤساء الإدارات وهيئات الحكامة- من الحق في إحالة التظلمات الموجهة إليهم، والتي تدخل ضمن مهام وصلاحيات الوسيط، على أنظار المؤسسة.
إن استحضار تزامن سياقي انبثاق المجتمع المدني وبروز الظاهرة المؤسساتية للمجالس الوطنية كتطوير لتقليد الاستشارة، لا ينبغي أن يحجب النظر إلى زوايا أخرى للتقاطعات التي تجمع الديناميتين في الزمن المغربي للأربعة عقود الماضية.
وفي هذا الإطار، استندت المؤسسات الوطنية في تأطير مواردها البشرية وقيادة برامج عملها إلى العديد من الأطر التي تلقت تكوينها في مدرسة المجتمع المدني، بعدما استأنست بمهارات الفعل الجمعوي في التواصل، والترافع، والتأطير، والتكوين، وبعدما تشبعت – أساسا- بقيم الالتزام من أجل قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية.
كما يظهر أثر ذلك جليا في مخرجات وأدبيات وتقارير هذه المؤسسات، التي تأثرت بتقاليد البحث العملي«la recherche-action» ، التي طورتها التجارب الرائدة داخل الحقل الجمعوي المغربي، في سياق تفاعلها الترافعي واستراتيجيات التأثير التي اعتمدتها في العلاقة بالسياسات العمومية.
وإذا كان من الضروري – في سياق معين- تقييم الأداء العام لهذه المؤسسات الوطنية، فلا شك أن المتتبعين سيقفون على تشخيص أولي يتمثل في ارتكازها – من البدايات إلى تكريس الحضور داخل النسيج الوطني- على ثلاث رافعات مركزية هي: الخبرة الجامعية، والتراكم البشري والتنظيمي للإدارة المغربية، بالإضافة طبعا إلى التقليد الجمعوي للمدارس الكبرى للمجتمع المدني منذ بدايات الاستقلال (الجمعيات التربوية، الحركة الحقوقية والنسائية، منعطف »الفضاء الجمعوي«، الديناميات المحلية/التنموية…).
ولا شك، من جهة أخرى، أن الانخراط المغربي رسميا ومدنيا في تمرين أممي مثل آلية الاستعراض الدوري الشامل على مستوى مجلس حقوق الإنسان، أو في العديد من الواجهات الدولية الأخرى، قد سمح بدوره بالكثير من التقارب بين المجتمع المدني والمؤسسات الوطنية الحقوقية، وعلى مستوى إنتاج المقاربات والخطاب وبلورة اللغة والمرجعيات المعيارية والمنهجية.
ولعل عمق هذا التقارب يتعلق، في الواقع، بدينامية التحول الذي عرفته تجربة المجتمع المدني المغربي، وهو ينتقل من نمط من التعبئة قائم على مركزية القيم والمشروع المجتمعي، ضمن ما يعرف بجمعيات »الفكرة« إلى نمط أكثر اشتباكا مع واقع السياسات، تتبعا وتقييما وترافعا وبحثا عن التأثير. وهذا ما أوجد عمليا قاعدة واسعة للمشترك الذي يجمع الممارسة المدنية التي باتت أكثر ارتباطا بمخرجات الفعل العمومي الوطني أو المحلي، بالمؤسسات الوطنية المنشغلة بالأساس بتأطير الحوار العمومي حول السياسات، بمرجعية حقوقية ومعيارية.
ضمن مسار هذا التأمل، تتبدى العلاقة بين المجتمع المدني والمؤسسات الوطنية كأفق مفتوح لا يكتمل عند حدود النصوص أو الترتيبات الشكلية، وإنما يمتد في جوهره إلى تلك اللحظة التي يلتقي فيها العقل الجمعي بإرادة الإصلاح، فيصوغ وعيا مشتركا يعيد تعريف معاني المشاركة ويحررها من عوائق التردد والانتظارية. وفي هذا التلاقي تتأسس إمكانات المعنى العميق للديمقراطية كتعاقد دائم على تجديد العلاقة بين الدولة ومجتمعها، حيث تُصبح التقاطعات بين الاجتهاد المدني، والانفتاح المؤسسي، إسهاما لافتا في كتابة سيرة ذكاء جماعي تنيرها قيم الحق والإنصاف والمسؤولية.
ولعل هذه العلاقة وهي تتأطر بالضرورة ضمن العنوان الكبير للعلاقة بين الدولة والمجتمع، تبدو أكثر انتماء للمستقبل، بالمعنى الذي يجعلها أحد مسالك تدعيم المسار الديمقراطي، من مدخل المشاركة المدنية، وبالمعنى كذلك الذي يجعلها إمكانية تاريخية لإعادة بناء وترتيب معادلات الدولة والمجتمع، من زاوية المؤسسات الوطنية باعتبارها المكون الدستوري الذي يقوم شرطه الوظيفي على القرب من تعبيرات المجتمع وحساسياته، ومن زاوية المجتمع المدني الذي تنهض فكرته الأصلية على تمثل أدوار الوساطة بين انتظارات ومطالب المجتمع وبين أجوبة الدولة وسياساتها.
ضمن هذا الأفق، سيظل انفتاح مؤسسة وسيط المملكة على المجتمع المدني خيارا أصيلا، يجسد اليد الممدودة للحوار المسؤول، ويرسخ الثقة كقيمة تؤسس لآفاق أرحب للتلاقي بين الدولة والمجتمع.
+++
*كلمة الأستاذ حسن طارق، وسيط المملكة، بمناسبة افتتاح الدورة 41 للأكاديمية السياسية للشباب الديمقراطي
المنظمة من طرف منتدى المواطنة- المحمدية، 23 ماي 2025.