الرئيسية

المرأة التي قالت للحسن الثاني: أعيدوا لي ابني

فاطمة الفحصي.. والدة عبد الرحمان اليوسفي

حسن البصري
يرى البعض أن نبش صحافي في جذور عائلة زعيم سياسي يعد خرقا للحياة الخاصة لرجال الدولة، ويعتقد الكثيرون أن النبش في سير حياة أمهات الوزراء وخدام الدولة، هو فضول زائد لصحافي قد يقضي وقتا طويلا وهو يلهث خلف معلومات عن سيدات غالبا ما يرفضن الأضواء ويفضلن العيش في الظل. لكن لا أحد يقبل أن تظل المرأة التي أهدت للوطن زعيما تعيش خارج سياق التاريخ، أن يقتصر دورها على البكاء في المحن والفرح يوم الانفراج. كانت الأم تخشى على ابنها من السياسة وتخشى عليه أكثر من غضب الوالد، لذا تستحق منا هذه السيدة لقب المناضلة خاصة إذا أهدت للوطن وجها سياسيا من رحم المعاناة.
في هذه السلسلة سنقرب قراء «الأخبار» من أمهات ساهمن في الحياة السياسية للمملكة، نساء أنجبن رجالات المخزن وساهمن في بناء شخصية وزراء ومسؤولين من الوزن الثقيل، بعضهن مؤثرات في القرارات السياسية والبعض الآخر مربيات متنكرات في زي محافظ.

من غرائب الصدف أن يولد عبد الرحمان اليوسفي في الثامن من مارس، وهو التاريخ الذي سيصبح مرادفا للاحتفال بالمرأة، لذا قد نجد تفسيرا لهذه المفارقة من خلال حجم الاحترام الذي يكنه الرجل للمرأة الأم والزوجة والأخت.

ميلاد على إيقاع حرب
ولد عبد الرحمان في ضواحي طنجة بحي اسمه الدرادب، يوم 8 مارس 1924، لأب اسمه أحمد وأم تدعى فاطمة. كان أصغر إخوته الأشقاء، وكانت طنجة حينذاك تخضع لنظام الوصاية الدولية، بينما يعيش شمال المملكة على إيقاع حرب الريف.
في هذه الظرفية الصعبة ولد عبد الرحمان الذي لم ينعم كثيرا برؤية والده وظل تحت كنف والدته فاطمة، وهي التي سهرت على تربيته في الوقت الذي كان الأب يشق طريقه في دواليب السلطة، وهي التي واكبت بداية ولوج ابنها المسيد ومنه إلى المدرسة الابتدائية.
كما تؤكد مذكراته بعنوان «عبد الرحمان اليوسفي: أحاديث في ما جرى»، التي أعدها الكاتب مبارك بودرقة، فإن والدته فاطمة الفحصي تنحدر من المنطقة ذاتها التي ينتمي إليها والده «الفحص»، وعند زواجهما تركت حياة البادية، لتنخرط في أجواء وعادات أهل طنجة، مستفيدة من اتصالها بجيرانها وخاصة زوجات أصدقاء الوالد.
«كان عمي الريفي، الذي ينحدر من الريف، من أقرب أصدقاء والدي أثناء اشتغالهما في الشركة الجزائرية. ثم صديق آخر لوالدي منحدر من منطقة سوس، متزوج بسيدة يهودية ارتبطت بعلاقة صداقة متينة مع أمي. كان عمي السوسي، هذا، المنحدر من مدينة تافراوت يحترف مهنة صراف التي كان ينفرد بمزاولتها اليهود المغاربة، فشكل استثناء. ومن خلال العلاقة مع العم السوسي، تعايشنا مع طقوس الأعياد اليهودية وشاركناهم احتفالهم دوما بها».

وسط عائلي متعدد
ينحدر أحمد اليوسفي، والد عبد الرحمان، من قرية «دار زهيرو»، بمنطقة الفحص التي تبعد بخمسة وعشرين كيلومترا عن مدينة طنجة، وقد نزح إلى هذه الأخيرة في شبابه، بحثا عن عمل، ليستقر به المقام في الأخير بجبل طارق، حيث عمل بإحدى القنصليات الأجنبية هناك، وهو ما أكسبه صفة المهاجر التي سيشترك فيها مع أحد أشقائه الذي انتقل بدوره إلى فرنسا. إلا أن هذا الأخير ستفقد العائلة أثره إلى الأبد، وظلت صورته موضوعة فوق إحدى الخزائن التي تؤثث البيت، ذكرى عنه، لكن بعد فترة من الاشتغال بجبل طارق، عاد أحمد اليوسفي إلى طنجة للعمل بإحدى الشركات البنكية الجزائرية، كما عمل بعدها في شركات أخرى.
مكن عبور أحمد بجبل طارق من إتقانه للعديد من اللغات، وأصبح يعمل وكيلا معترفا به لدى السلطات المحلية، حيث كان يتولى، بالأخص، فض المنازعات المدنية في ما يشبه التحكيم. وهي الوظيفة التي كانت تتيح له تقديم تقارير يومية إلى المندوب العام الحاج محمد بن عبد الكريم التازي، وكان يرافقه لأداء صلاة الجمعة، لكن الأب تزوج بسيدة ثانية وجيء بها لتتقاسم البيت نفسه مع أم عبد الرحمان. «بقي أحمد اليوسفي يعيش حياته كرب أسرة، مكونة من زوجتين، محافظا على تقاليد الحياة الاجتماعية، وكان بيتنا في عيد الأضحى مثلا، يشهد طقوس اقتناء كبشين، وحتى بعد انفصاله عن الزوجة الثانية، ظلت تلك العادة سارية». يضيف عبد الرحمان: «ترعرعت في وسط عائلة متعددة الأبناء والبنات انتقلوا كلهم إلى عفو الله، وكان آخرهم أخي إدريس، الذي توفي في يوليوز 1998، بينما بقيت أنا أمارس فضيحة الحياة».
مات الزوج أحمد اليوسفي وأصبحت فاطمة أرملة، كان عبد الرحمان حينها قد نال الشهادة الابتدائية، عام 1937، دون أن ينعم بفرحة النجاح، كان طفلا لا يقدر على فك لغز حالة الحداد التي تلف البيت. تقول فاطمة، نجلة عبد الله أبا عقيل رفيق درب اليوسفي: «والدة المرحوم سيدي عبد الرحمان كانت نموذجا حيا لأمومة مثالية، رغم ظرفية ووقائع فرضت عليها تحملات جمة، منها فقدانها لثلاثة أبناء، ثم صبرها المديد على غياب ابنها في المهجر الفرنسي. عاشت المرحومة فاطمة الفحصي في منزلنا سنين عديدة عوضت بها بعضا من خصاصها الوجداني».
ما أن انتهت معاناة فاطمة من فراق زوجها، حتى وجدت نفسها أمام فراق اضطراري لابن هام على وجهه في فرنسا دون أن يظهر له أثر، وابن اختار النضال السياسي فتقاسمت معه المتاعب، منذ اعتقاله في عام 1959، حين جرى إلقاء القبض عليه بتهمة التحريض على العنف والمساس بالأمن الوطني، وهي التهمة التي زرعت فيها رعبا أدخلها متاهة الأمراض المزمنة.
لكن أم المحن بالنسبة لفاطمة هي إصرار فلذة كبدها على المغادرة الاضطرارية للوطن، وتحديدا في سنة 1965 التي كانت حبلى بالاضطرابات السياسية والطلابية على الخصوص. غادر اليوسفي إلى فرنسا وظل فيها لمدة 15 عاما، وتمت محاكمته، وقتها، بشكل غيابي، وطالب المدعي العام بأن يدان بالإعدام، لكن عفوا صدر بحقه في 1980، فعاد إلى البلاد. سقطت عنه التهم وعاد إلى المغرب ليعانق والدته «التي انتظرته أكثر من أوراقه الشخصية في المنزل، وحالت بينها وبين زوار الليل الذين كانوا يأتون للبحث عنه في عز سنوات الرصاص».

«بغيت وِليدي»
يذكر اليوسفي أنه بعد سنوات المنفى الطوال التي كان ضحية لها، استقبلت والدته في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كلف الدكتور عبد الكريم الخطيب بإحضارها إلى القصر الملكي ليتناول معها الشاي. قبل انصرافها سألها إن كانت في حاجة لأي شيء، لتجيبه بلهجتها الطنجاوية: «بغيت وِليدي» (أريد ولدي). أجابها الحسن الثاني: «يمكن لابنك أن يعود إلى بلاده متى يشاء، والوطن سيرحب به». ظلت أمه متشبثة بخيط الأمل إلى أن عاد إلى بلده، لكنها ماتت بعد أقل من سنة وتحديدا في عام 1981، وكأن القدر أمهلها إلى أن رأت ابنها ثم انصرفت.
في حياة عبد الرحمن اليوسفي سيدتان. الأولى والدته «الطنجاوية» التي أحبته وأحب بعينيها الحياة، والثانية هي زوجته «هيلين» التي احتضنته في عز الخوف والذعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى