الرئيسيةخاص

المغاربة والبحر ضرورة إعادة النظر إلى السياسة التنموية بالسواحل المغربية

محمد قيصر
«أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر…» الآية.
تغطي المحيطات البحرية نسبة واحد وسبعين في المائة (71 في المائة) من مساحة الكرة الأرضية، وهي ما يقارب ثلاثمائة وواحد وستين مليون كيلومتر مربع (361000000 كلم متر مربع) ومليار وثلاثة وثلاثين مليون كيلومتر مكعب (1330000 كلم متر مكعب) من الماء. وكل مخلوق تدب فيه الحياة يحتوي على الماء. فالإنسان مثلا يعيش في التسعة الأشهر الأولى أثناء الحمل في وسط مائي، كما أن جسمه يحتوي على 70 في المائة من الماء، وأن مكونات بلازما دمه شبيهة بتركيبة ماء البحر.
وتزودنا المحيطات والبحار التي تلف الكرة الأرضية بكل الماء الذي نشربه، ونصف الأكسجين الذي نستنشقه وخمس البروتينات الحيوانية التي نأكلها. كما أنها تضبط المناخ، إذ لولاها لكانت درجة حرارة الجو أعلى مما هي عليه بـ35 درجة مئوية.

من التشابه والتناظر بين مكونات الكون، سيما بين نسبة الماء في جسم الإنسان وفي كوكب الأرض، يمكن أن نستخلص نتائج مهمة بالاعتماد على القوانين والسنن الكونية. فالمغرب مثلا يكاد يقسم الكرة الأرضية إلى قسمين شمالي وجنوبي، ويشبه استنادا إلى التماثلات الكونية بطن إنسان بدين في اتصاله بالبحر، مما يوحي بأنه شبعان أو مكتف بذاته إذا أطلقنا العنان لمخيلتنا. والحقيقة أنه بإمكانه أن يكون كذلك، والمقصود بالضبط من الناحية الاقتصادية إذ يمتد على واجهتين بحريتين: خمسمائة وثلاثة وتسعون كيلومترا (593 كلم) على الساحل المتوسطي وألفان وثمانمائة وثمانية عشر كيلومترا (2818 كلم) على الساحل الأطلسي وثمانية وعشرون في المائة (28 في المائة) من الشواطئ. خمسة وسبعون ألف كيلومتر مربع (75000 كلم مربع) من المياه الساحلية ومليون ومائتي ألف كيلومتر مربع
(1200000 كلم مربع) كمنطقة اقتصادية خالصة.

علاقة غريبة مع البحر
إن نسبة خمسة وخمسين في المائة (55 في المائة) من سكان المغرب تعيش على الساحل، وعلى الرغم من أن أكثر من نصف سكان المغرب يعيشون على الساحل، فإن المغاربة لا يجدون إلى البحر سبيلا. ولعل السبب في عدم انفتاحنا على البحر هو كثرة العادات البدوية لدى المغاربة، حسب مفهوم ابن خلدون. فالبحر غريب عن ثقافتنا بكل تنوعها وتاريخها، فالحديث عنه نادر في كتابات مثقفينا ويكاد ينعدم في الرسائل الجامعية والبحوث الأكاديمية. كما أنه في جانب آخر نجد أن رياضيينا المختصين في الرياضات البحرية متعثرون، حيث لا يتجاوزون المراتب الأخيرة في البطولات الدولية. كما أن أذهاننا لا تخلو من ذكريات أليمة، أثناء ذهابنا للاستجمام في الشاطئ، بمشاهدة ضحايا يصارعون الموت لجهلهم بقواعد السباحة وفنونها، هذا إن لم نكن نحن من كان ضحية الأمواج العاتية. كما أنه يكاد يغيب البحر في ثقافتنا الغذائية، حيث إن المعطيات الإحصائية تؤكد أن المغاربة يستهلكون اللحوم بمعدل خمسة عشر كيلوغراما سنويا، بينما استهلاك السمك لا يتعدى معدل تسعة كيلوغرامات (9 كيلوغرامات) إلى اثني عشر كيلوغراما (12 كيلوغراما) سنويا، وبالتحديد ثلاثة كيلوغرامات (3 كيلوغرامات) للفقير، وثمانية عشر كيلوغراما (18 كيلوغراما) للغني. ومما يزيد من درجة الاستغراب أن المغرب يستورد أنواعا معدودة على رأس الأصابع من اللحوم من الخارج، فيما يحتل الرتبة الثامنة عشرة عالميا والأولى عربيا في إنتاج الأسماك، حيث يتوفر على خمسمائة نوع منه، لا يستغل منها إلا 60 نوعا. أما مضيق جبل طارق فهو يشبه في شكله قلب جسد بشري. وعلى أرض الواقع، فهو كذلك إذ يعتبر مضخة للحركة العالمية للسفن، حيث تعبره مائة ألف (100000) سفينة سنويا. ويسمح بربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، ولا ننسى السفن التي تأتي من المحيط الهندي عبر قناة السويس، مما يجعل المضيق ثاني أهم معبر في العالم بعد معبر المانش. وللتذكير فالبحر الأبيض المتوسط يحتضن 20 إلى 25 في المائة من الرواج العالمي للمحروقات و20 في المائة من الرواج التجاري للحاويات. والعجيب في الأمر أن البحارة المغاربة في القرون الوسطى، ولو بشكل غير رسمي ولا مقنن، في إطار القرصنة البحرية والتي كانوا يطلقون عليها الجهاد البحري، تنبهوا إلى دور المضيق في توفير خزينة الدولة بكميات هائلة من السيولة النقدية ومن الذهب والفضة. كما منحوا المغرب هيبة عالمية جعلته يؤتمن على حركة مرور السفن في مضيق جبل طارق والمحيط الأطلسي مقابل الجزية. وحتى القرن الثامن عشر فإن الولايات المتحدة الأمريكية، أقوى دولة في العالم الآن، كانت تعقد اتفاقيات تأمين مع المغرب وتدفع الإتاوات مقابل السماح لسفنها بالمرور بشكل آمن.
أما أوهن البيوت وهي الملاحة التجارية التي تنظم القطاع البحري بالمغرب، والتي تشبه بيت العنكبوت في تموقع المغرب بين تقاطع خطوط العرض الستة عشر(°21 و°36) وخطوط الطول السبعة عشر (°1و°17). فبعدما كانت وزارة مستقلة ولها ميزانيتها الخاصة، أضحت يتيمة الوزارات الأخرى، تنتقل من واحدة إلى أخرى عسى أن تجد من يقبل عليها وكأن دورها عديم الجدوى. وهكذا أصبحت تقتات على أبنائها من الضباط والبحارة، ظنا بأن هذا السلوك يملأ الفراغ الحاصل ويضبط رجال البحر ويخرس أفواههم، بعدما استنكروا ما حدث منذ تحرير القطاع البحري سنة 2007.

مساكين يعملون في البحر
مساكين رجال البحر، فمنذ أن خرق سيدنا الخضر سفينتهم واللعنة تطاردهم أينما حلوا وارتحلوا، أو على الطريقة المغربية «شي دعوة أصابتهم». وكلمة مساكين التي يصفهم بها القرآن الكريم تعني أنهم مهضومو الحقوق بالنظر إلى العمل الذي يسدونه. وعلى كل حال، فهذا النعت أحسن حالا من التقرير الذي أعده الاتحاد الدولي لعمال النقل، والذي يؤكد أن العبودية ما زالت قائمة حتى في القرن الواحد والعشرين في صفوف رجال البحر. كيف لا؟ وقد أدى قرار خوصصة القطاع منذ سنوات، عفوا «صخصخته» على الطريقة المغربية، إلى تشريد الآلاف من رجال البحر وتجميد حقوقهم والاستيلاء على الأسطول المغربي والخطوط البحرية، مع ما كان يوفره لخزينة الدولة من العملة الصعبة.
كما لا ننسى المساهمة القيمة للسفن المغربية في عملية العبور، حيث كانت تنقل المغاربة القاطنين بالخارج بأسعار مناسبة، وفي جو مغربي صرف، عكس ما يحدث اليوم من اكتظاظ في الموانئ الأوربية والمغربية أثناء العبور. وكم تمنينا أن يتم الإجهاز على مجموعة أسطولنا على طريقة سيدنا الخضر في خرق سفينة المساكين، على أن تسقط في يد ملاك السفن الأجنبية الذين نكلوا بالأطر المغربية وشردوهم بلا شفقة، كما احتكروا النقل البحري بالأسعار التي تناسبهم.
وأمام صرخة رجال البحر والجالية المغربية من بعدهم، وحين حاولت الوزارة إحداث التغيير، لم تقم سوى بالتحول من الاتكاء على الجهة اليمنى إلى الاستناد على الجهة اليسرى. ليصبح المغرب الذي ألفناه على شكل بطن مليء بالموارد الطبيعية البحرية، يشبه ظهرا مقوسا منخورا.
وكما يقال لا يمتطي ظهرك إلا من انحنيت له، فتخلي المسؤولين عن القطاع أدى إلى تبعيتنا للخارج في نقل ما نحتاج إليه من مواد مستوردة، وفق إملاءات وأسعار السفن الأجنبية. ولا يسع المسؤولين المغاربة إلا نسب ما يقع إلى الشيطان، كما قال غلام موسى عندما نسي الحوت في البحر: «وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره». طبعا شياطين الإنس في حالتنا لأنهم تغاضوا عن أهمية البحر وتشبثوا بكراسيهم على حساب تنمية البلاد.
بين «الجهاد البحري» في القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر، حيث ربط المغرب مصيره البحري بمصير اللاجئين من الأندلس، وتقاسم معاناتهم واستفاد من حنكتهم في البحر، بل حولها إلى قوة جيوسياسية.. وبين الذل البحري في القرن الواحد والعشرين، تعيش البلاد حالة احتقان جراء جبن سياسي محض في الانفتاح على البحر كقاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وحتى الشباب من حاملي الشهادات أو عدم توفرهم عليها، فهموا أن الحل في البحر ولجؤوا إلى قوارب الموت رغبة في تحسين حالتهم الاقتصادية والاجتماعية. والحقيقة أنهم بحارة حقيقيون، ما داموا يصلون إلى الضفة الأخرى عبر زوارق غير مؤهلة للإبحار. ولو أسعفتهم الدولة ومنحتهم الشهادات البحرية للعمل قانونيا على متن السفن، لغطوا الخصاص الحاصل في ضباط وبحارة الاتحاد الأوربي، الذي يقدر بالمئات وعادوا محملين بالعملة الصعبة من الخارج على الطريقة الفلبينية أو الهندية. حيث إن رجال البحر في هذه الدول يعتبرون جالية مهمة، ويوفرون للدولة عائدات مالية مهمة.
وكما نسعى في أزمة تفشي وباء كورونا إلى الخروج منها سريعا حتى تستمر الحياة ونخرج من الرتابة، فإن من الواجب على المسؤولين المغاربة أن ينظروا إلى البحر بعدسات جديدة ليروه أزرق وليس «أزرك»، يعكس عقولهم المتحجرة وتشبثهم بكراسيهم التي عوض أن يغيروها، يغيرون فقط ألوان مخططاتهم الاستعجالية الفاشلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى