المغرب وإسبانيا في الأزمات التاريخية
سكان شمال المغرب والإسبان.. الذاكرة المنسية

يونس جنوحي
انقطاع التيار الكهربائي الذي عرفته إسبانيا، مطلع الأسبوع الجاري، والذي أدخل البلاد في حالة شلل تام، وتصريح رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، الذي يشكر فيه المغرب على تقديم العون ومد الكهرباء، يعيد إلى الواجهة تاريخا حافلا عن العلاقة «غير العادية» بين المغرب وإسبانيا.
في المنطقة الشمالية، تطوان والنواحي، عاش الإسبان فترة دبروا فيها الشأن العسكري في الشمال، وتسبب وجودهم في تدهور للعلاقات الإسبانية الفرنسية، واتهام باريس لمدريد بتسهيل مهام المقاومة المغربية، والسماح للمغاربة بنقل السلاح إلى داخل المغرب عبر الشمال.
بينما كان المغاربة يساعدون الإسبان في زمن فرانكو، حدث اتصال وثيق بين نخب إسبانيا والمغرب، وما زالت آثاره صامدة إلى اليوم في منطقة تطوان ونواحيها.. رغم أن الإهمال طال جوانب كثيرة من الذاكرة الجماعية في المنطقة. ليس هذا فحسب، بل إن هذا الإهمال طال شخصيات وطنية أيضا.
++++++++++++++++++++++++++++
عندما كرّم الإسبان المغرب في قلب «إشبيلية» قبل قرن
عندما انتهى الإسبان من بناء ميدان إسبانيا سنة 1929، تقرر أن يقام فيه معرض أطلق عليه تاريخيا اسم «المعرض الإيبيري الأمريكي»، احتفاء بصداقة الإسبان مع الولايات المتحدة، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وحدث هذا سنة 1930.
لكن المثير أن المغرب حل ضيف شرف على الحدث، وحظي بالتكريم، في التفاتة تعكس أهمية المغرب في الخريطة السياسية للإسبان. وهكذا فقد وضع الإسبان ما عرف بـ«أسبوع المغرب»، وخصصوا جناحا كاملا في المعرض للتعريف بالمغرب والثقافة المغربية، ووجهوا دعوة رسمية إلى المغرب للحضور.
ليس هذا فحسب، بل إن الساحة التي أمر الملك الإسباني ببنائها كانت تحمل معالم العمارة المغربية الأندلسية، وعندما دُشنت الساحة، كتب في لوحتها التعريفية: «الإحياء المغاربي الذي يدخل في روح العمارة الإسبانية».
لبى السلطان سيدي محمد بن يوسف دعوة الإسبان، وأرسل وفدا مغربيا لحضور الحفل وإعلان «أسبوع المغرب» في قلب إشبيلية.
وكان الوفد المغربي يتكون من أحمد الرهوني، أحد أشهر شخصيات تطوان وفقهائها، وهو أديب ومؤرخ ترك مؤلفات ومخطوطات في الخزانة المغربية، ومن المفارقات أنه توفي سنة 1953 ولم يعش محنة نفي السلطان.
ثم الحاج عبد السلام بنونة، وهو أحد مؤسسي الحركة الوطنية المغربية، ومن أهم الشخصيات التطوانية.
ثم إدريس الريفي الذي كان معروفا لدى المفوض السامي الإسباني، ولعب دورا كبيرا في حرب الريف خلال عشرينيات القرن الماضي، حيث كان معاديا لحركة الريسوني.
ثم محمد التهامي أفيلال، وهو أيضا مثقف تطواني ومؤرخ ألف العديد من المؤلفات عن تاريخ المنطقة الشمالية.
تابعت الصحافة الإسبانية رحلة الوفد المغربي إلى إسبانيا، ونشرت كل الصحف التي غطت الحدث صورة أعضاء الوفد الأربعة، بالجلباب المغربي، وهم يمثلون نخبة الشمال الذين اختارهم السلطان سيدي محمد بن يوسف لكي يمثلوا المغرب في التظاهرة الدولية.
ماذا وقع إذن لكي تعيش منطقة الشمال، باعتراف سياسيين عاشوا المرحلة، عزلة بعد الاستقلال، وتبتعد أسماء وطنية وازنة من المنطقة عن الأضواء؟
بل إن الإسبان أنفسهم، عاشوا تاريخا حافلا في المنطقة الشمالية، وكانت علاقة المفوض السامي الإسباني بأهالي منطقة الشمال تعرف فترات جفاء ودفء باستمرار، لما يقارب نصف قرن من الزمن، منذ انطلاق حرب الريف في بداية العشرينيات وما قبلها بقليل من المناوشات العسكرية، ثم خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وأجواء حكم فرانكو، حيث كانت منطقة الشمال المغربي ملجأ لمعارضي فرانكو، وأصدقائه أيضا!
عبد الخالق الطريس.. عُلبة أسرار منسية التف حوله مغاربة وإسبان
رغم أن عبد الخالق الطريس كان شمالي الهوى، حيث كانت المنطقة تحت الاستعمار الإسباني، إلا أن معركته الحقيقية كانت مع فرنسا.
الأصول الموريسكية لعبد الخالق الطريس، جعلته يرى النور في كنف أسرة تحمل ذكريات الأجداد في الأندلس.
كان والد عبد الخالق الطريس نائبا سلطانيا في طنجة، وأحد أعضاء الوفد المغربي إلى مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906. وبعض الصحف البريطانية أشارت إلى اسمه بصفته رئيسا للوفد المغربي، وهو ما يكشف المكانة الكبرى التي كان يحظى بها لدى القصر الملكي في فاس.
درس الابن عبد الخالق في القرويين، ومنها إلى فرنسا، حيث استكمل دراساته العليا في جامعة السوربون، ليصبح من أوائل المثقفين المغاربة الذين نظّروا للحركة الوطنية المغربية قبل تأسيسها.
ومن الأمور الغريبة المرتبطة بحياة عبد الخالق الطريس، أنه شارك في تأسيس جمعية طلبة شمال إفريقيا في فرنسا سنة 1930، وأسس جمعية الطالب المغربي سنة 1932، وأطلق أول جريدة في مساره اختار لها اسم «الحياة»، وكانت تصدر بشكل أسبوعي، ثم بعد ذلك أسس «الحياة اليومية»، و«الأمة»، في أقل من أربع سنوات.
هذه الأنشطة المكثفة التي مارسها عبد الخالق الطريس بمجرد عودته من «السوربون» لفتت الأنظار إليه، سواء من طرف الإسبان أو الفرنسيين، وحتى المغاربة. ولم يكن قد بلغ الثلاثين سنة من عمره بعد.
كانت القناعات الوطنية والقومية العربية واضحة في تصريحات عبد الخالق الطريس وأنشطته، سيما بعد تأسيسه لحزب الإصلاح الوطني سنة 1936، وانخراط جل نخب الشمال معه، لتتسع قاعدة الحزب في فترة وجيزة. وأصبح يسافر بصفته أمينا عاما للحزب لحضور مؤتمرات في الشرق، أشهرها المؤتمر البرلماني العربي سنة 1938، حيث أصبح صديقا لوزراء خارجية دول عربية تعرفت من خلاله على القضية المغربية في ذلك الوقت، وحاز ثقة جامعة الدول العربية، خصوصا في مقرها بمصر.
ومن الأمور غير المعروفة أن عبد الخالق الطريس حُكم عليه بالإعدام غيابيا من طرف محكمة فرنسية في مكناس، بسبب أنشطته الوطنية سنة 1944، وجرب الاعتقال أيضا في وقت سابق على يد الفرنسيين.
في الزيارة التاريخية للسلطان سيدي محمد بن يوسف إلى طنجة سنة 1947، كان عبد الخالق الطريس من أوائل من كانوا في استقبال السلطان باسم حزب الإصلاح الوطني.
هذه التجربة الحزبية قُدر لها أن تنصهر في حزب الاستقلال سنة 1956، إيمانا من عبد الخالق الطريس أن المغرب في غنى عن التقسيم الحزبي.
شخصيات إسبانية أحاطت عبد الخالق الطريس بكثير من التقدير، نظرا إلى الشعبية الكبيرة التي كان يمتاز بها الرجل في منطقة الشمال، وقدرته على جمع الحشود واشتهاره بالخطابة. فقد كان قادرا على جمع التطوانيين في الساحات العمومية وتجييشهم للتفاعل مع الأحداث الوطنية، خصوصا نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف في غشت 1953. وهذا الأمر بالضبط كان مصدر ضيق للفرنسيين، بحكم أن المنطقة التي كان ينشط فيها الطريس لم تكن تابعة لنفوذهم.
بعد استقلال المغرب سنة 1956، تعين عبد الخالق الطريس سفيرا للمغرب في مدريد، والقاهرة. وقد لعب خلال مقامه في القاهرة دورا كبيرا في تسجيل التقارب بين الملك الراحل محمد الخامس وجمال عبد الناصر، في إطار المساعي العربية لمساندة الدول العربية التي كانت لا تزال مستعمرة، وأولها الجزائر.
كما أن الطريس لعب دورا كبيرا في ربط محمد بن عبد الكريم الخطابي بالسياق المغربي، بعد سنوات منفى طويلة قضاها الخطابي بين «لارينيون» والقاهرة. حتى أن الخطابي في بعض رسائله، أشاد بالطريس وبالدور الذي لعبه في القاهرة، قبل الاستقلال وبعده.
عندما عاد الطريس إلى المغرب، حمل حقيبة وزارة العدل، وعاش تجربة تأسيس أول برلمان مغربي سنة 1963 في بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
كان الطريس يرى بوادر الأزمة التي أسست للصراعات السياسية بعد الاستقلال، وانسحب من الحياة السياسية، وهو يرى كيف أن منطقة الشمال، وجل شخصياتها الوطنية، لم تنل العناية التي تستحق، باعتراف شخصيات وطنية، علقت على الأحداث، بعد عقود طويلة.
التضييق على طلبة تطوان وعزلهم بحدود المنطقتين الإسبانية والفرنسية
إذا كان علال الفاسي، الزعيم الوطني الذي التف حوله جل شباب المغرب المثقف في أربعينيات القرن الماضي، قد اعترف بنفسه بأن أهالي تطوان ظُلموا، بسبب الحدود التي ضُربت بين المنطقتين الفرنسية والإسبانية، فإن نُخبا مغربية أخرى للأسف تنكرت لكفاءات الشمال، بل وساهمت في العزلة التي فرضها عليها الاستعمار، خصوصا في الفترة التي سبقت الهدنة بين إسبانيا وسكان المنطقة الشمالية، بعد انتهاء الحرب.
وهنا، نورد نموذجا فقط للشباب المغربي المثقف المنحدر من منطقة تطوان. يتعلق الأمر بأحد أوائل الشباب المغاربة المُنتمين إلى الحركة الوطنية، في سياق بداية ثلاثينيات القرن الماضي، سيما الفترة التي سبقت سنة 1937 واسمه محمد بن تاويت.
هذا الأخير كان أمامه مستقبل سياسي وأكاديمي واعد، وكان من الشبان المقربين من علال الفاسي، قبل أن يُنفى هذا الأخير بدوره إلى الغابون.
لحسن الحظ أن ابن تاويت كتب أوراق مذكراته في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وكشف فيها جزءا غير معروف من التاريخ السياسي للحركة الوطنية، وتطرق إلى الظلم والإقصاء الذي تعرض له طلبة المنطقة الشمالية أكثر من غيرهم، خصوصا وأنهم اضطروا إلى المغامرة بحياتهم للوصول إلى جامعة القرويين في فاس لاستكمال دراستهم، بعد أن ضُربت الحدود بين المنطقتين الفرنسية والإسبانية.
يقول ابن تاويت في شهادته التاريخية: «وسرعان ما اشتدت الوشائج بين طلبة الشمال الإفريقي وصارت مؤامراتهم تنعقد به، أذكر منها ما عقد بفاس في الثلاثينيات، كان من التونسيين، فيها شخصية بارزة استحوذت على الحضور، ومن المغاربة وعلى رأسهم كان سيدي علال والشيخ المكي الناصري كان هذا الحفل، قد أقيم بأحد الرياضات إلى جوار درب بوحاج، من الطالعة الصغرى، فخاطب الخطباء الذين كانت تتوجه إليهم الأسماع وتتعلق بهم الأفئدة من الحضور، فكان منهم المرحوم البريهي، الذي وضع عوده من يده، وتلاه جماعته، متفرعين للإنصات والبريهي قد فغر فاه إعجابا بالخطب التي أخذ بها، وإن لم يكن يفهمها، ولا كانت شيخوخته الهرمة تسمح لسمعه بتتبعها.
وقامت الحرب الإسبانية وانقطعت الصلات بين المنطقتين، واضطررت لمغادرة فاس والعودة إلى تطوان، ورافقني الصديق الشاب الحرايشي المجادلي إلى دار سيدي علال لأودعه، ليلة سفري هذا، فزودني بنصائحه ودعا بالسلامة كما هي العادة.
وامتطيت القطار، بعدما أذن لي من قبل إدارة الجنرال بحمل كتبي التي سلمت بها قائمة، ترجمت في الحين بالفرنسية … فوصلت فجرا إلى القصر الكبير. وحجزت مني الكتب، حتى الصباح. فتفحصت من قبل الترجمان الإسباني الذي كان يحسن العربية جيدا كما كان لبقا، وإن سمع مني سخرية به، لأول مروره علينا، ونحن في الانتظار ولم أكن أعلم أنه يحسن العربية، ففوجئت وتوجست شرا منه».
كان معروفا أن ابن تاويت قد تبوأ مكانة مهمة في المشهد الفكري في تطوان، لكن معضلة الحدود بين المنطقتين تسببت في عُزلة بين جيله وبين «غليان» الحركة الوطنية، أثناء تشكلها في مدينة فاس.
حتى أن بعض الأوساط التطوانية تحدثت عن مراسلات سرية بين نخبة من شباب تطوان وبين رواد الحركة الوطنية، لم يتم الاعتناء بها، تظلم فيها شباب المنطقة الشمالية من الإقصاء الذي تعرضوا له، في فترة الأربعينيات والخمسينيات.
حين «اكتوى» الخليفة السلطاني بالشمال مولاي الحسن بن المهدي بنار فرنسا
من الأمور التي كان يرفضها المقيم العام الفرنسي في الرباط، مسألة خلفاء السلطان الذين ورثوا تاريخيا هذه المهمة.
وتعود أولى مؤشرات اعتراض فرنسا على وجود خلفاء للسلطان، إلى سنة 1906، مباشرة بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء، ففي الوقت الذي كانت فيه فرنسا تخطط لإخضاع السواحل المغربية عسكريا تمهيدا للتوغل داخل المغرب، توصل المفوض الفرنسي في طنجة برسالة من أحد المواطنين الفرنسيين المقيمين في مراكش، يخبره فيها أن أخ السلطان – وكان يقصد المولى عبد الحفيظ- يتبنى أفكارا مناوئة لفرنسا، ويحظى بشعبية كبيرة في مراكش، ويدعم علماء الدين الرافضين لوجود الأجانب في المغرب. ويستند إلى مشروعية قوية، بحكم أنه كان خليفة لوالده المولى الحسن الأول على مراكش قبل 1894، ولا يزال يحتفظ بامتيازات المنصب بعد وفاة والده في السنة نفسها.
وهكذا كان من أوائل التوصيات التي وضعها العسكريون الفرنسيون لخارجية بلادهم، إعادة النظر في لوائح الخلفاء السلطانيين.
مولاي الحسن بن المهدي، الذي كان خليفة سلطانيا في تطوان، كان يمثل السلطان سيدي محمد بن يوسف في أحلك الفترات السياسية التي عرفها المغرب، خصوصا في أربعينيات القرن الماضي.
ورث مولاي الحسن بن المهدي منصب الخليفة السلطاني عن والده، الذي كان بدوره خليفة للسلطان مولاي يوسف، وتعين بظهير شريف سنة 1913.
نشأ مولاي الحسن بن المهدي في قصر والده بتطوان، وبعد وفاة الأب بسنتين تقريبا، قرر السلطان مولاي يوسف يوم 26 يونيو 1925 تنصيب الابن مولاي الحسن، وكان صغير السن، خليفة سلطانيا في تطوان مكان والده.
في البداية، لم يعترض الفرنسيون على هذا التعيين، خصوصا وأن تطوان تقع في المنطقة الإسبانية. لكن في سنة 1947 سوف يُوضع اسم مولاي الحسن بن المهدي في اللائحة السوداء، وعمره وقتها لم يكن يتجاوز 36 سنة، بعد أن ذهب إلى أصيلة لاستقبال السلطان سيدي محمد بن يوسف أثناء زيارته التاريخية إلى طنجة، وأعلن من هناك ولاءه للسلطان والعرش. لكن ما زاد من تعميق الأزمة، موقف مولاي الحسن بن المهدي سنة 1953، الرافض لنفي السلطان الشرعي، ورفضه الاتصال مع بن عرفة.
ومن الحقائق التاريخية المنسية، أن مولاي الحسن بن المهدي لعب دورا كبيرا في رفض مقترح اتفاق بين فرنسا وإسبانيا يقضي بترتيب فصل تام بين شمال المغرب وجنوبه سنة 1954، وأعلن عن موقف رافض لأي تدبير للحدود المغربية، ما دام سلطان المغرب الشرعي منفيا عن البلاد.
هذا دون نسيان دعم الخليفة السلطاني لوجود المقاومين اللاجئين في تطوان ما بين 1953 و1956، والدفاع عنهم أمام السلطات الإسبانية لتمكينهم من حق اللجوء. فقد كان مدير ديوانه، السكوري، صلة الوصل بين قصر الخليفة السلطاني واللاجئين إلى تطوان من المنطقة الفرنسية.
بعد استقلال المغرب سنة 1956، تعين مولاي الحسن بن المهدي سفيرا للمغرب في روما، ثم تبوأ منصب والي بنك المغرب في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وهو المنصب الذي بقي فيه إلى أن أقعده المرض، ليغادر الحياة سنة 1984 مسدلا الستار على مسار حافل. وبحسب من عرفوا مولاي الحسن بن المهدي عن قرب، فقد ظل وفيا لذكرياته في المنطقة الشمالية، وأدى ضريبة ولائه للمغرب طيلة ما يناهز أربعين سنة قضاها في منصبه ممسكا على الجمر.
نُخب الشمال المنسية.. ألفت أولى الجرائد وأسست لحركة ثقافية أقبرت في صمت
يبقى التهامي الوزاني أحد أشهر الشخصيات المنحدرة من الشمال، وأوائل من ساهموا في ميلاد الحركة الثقافية المغربية في فترة الاستعمار.
ورغم أن التهامي الوزاني يحظى بتقدير كبير في الشرق، إلا أن سيرته محليا في المغرب لم تحظ بالتقدير الذي يستحقه.
التهامي الوزاني أول من ألف رواية مغربية، وكانت تحمل عنوان «الزاوية»، وصدرت سنة 1942، وكانت تضم انطباعات الكاتب وذكرياته الشخصية، مع مزيج من التوثيق السياسي والتاريخي لمنطقة الشمال.
سبق في «الأخبار» أن سلطنا الضوء على مسار هذا المثقف التطواني المنسي، سنة 2021، وكانت مناسبة لإحياء سيرته من جديد، بعد عقود لم يُثر فيها اسمه في الصحافة.
ورغم أنه توفي سنة 1972، إلا أن التهامي الوزاني ظل مُبعدا عن المشهد السياسي والفكري في المغرب، حتى أن أرشيفه لم يُرتب بصورة تليق بإسهاماته المبكرة، إذ كان أحد أوائل الشباب المغاربة الذين كتبوا في الصحافة.
كان أيضا من أوائل من أصدروا الموسوعات العلمية في المغرب، إذ إنه وفي سن 37 سنة فقط ألف سنة 1940 «تاريخ المغرب» في ثلاثة أجزاء، واعتبر مؤلفه وقتها من أوائل الدراسات التوثيقية لتاريخ المغرب.
كما أن أرشيفه الخاص، وثّق بصورة نادرة لانطلاق المقاومة المغربية المسلحة في الشمال، حيث أعد ورقات بحثية في الموضوع، ورغم أنها لم تنشر إلا بعد وفاته بثماني سنوات (نشرت سنة 1980 بعد أن انتهى من كتابتها، وتوفي سنة 1972، ليتولى الباحث المغربي محمد بن عزوز تحقيقها وتدقيقها ونشرها)، إلا أنها اعتبرت من بين أولى الإسهامات العلمية في التوثيق لمرحلة المقاومة في الشمال.
كما أنه لم يهتم بتاريخه الشخصي، إلا من خلال سيرته الذاتية «الزاوية»، بينما عكف على تسجيل سيرة عدد من الشخصيات، حيث ألف «خمسون سنة صحبة آل بنونة»، و«مذكرات عن مؤسسي الحركة الوطنية: ذكريات عن الصديق محمد بن مصطفى أفيلال». حيث اعتبرت تلك السلسلة أحد المشاريع الأخيرة للراحل وغير المكتملة، حيث كان يخطط لجعلها سلسلة كتب تتناول حياة مؤسسي الحركة الوطنية الفعليين والمنسيين، إلا أن المنية حالت بينه وبين المشروع.
وقد نظمت ندوة نادرة عن حياته في تطوان، بعد أن قرر بعض من عرفوه إخراج اسمه من دائرة النسيان في أبريل سنة 1987، حيث وصفه إبراهيم الخطيب، أحد المتدخلين في الندوة، بالقول: «يبدو أن التهامي الوزاني كان شخصية منفتحة ذات نصيب لا بأس به من التمرد. الأمر الذي يفسر ميله إلى التصوف من جهة، وقطيعته على مستوى السلوك والرؤية للعالم مع الجيل المحافظ الذي سبقه، من جهة أخرى.
وفي هذا الصدد يمكن أن نذكر أنه كان على صلة وثيقة ببعض رهبان البعثة الكاثوليكية في تطوان، يحاورهم ويناقشهم في مسائل الدين والغيب، كما كان كثير التردد على قاعات السينما رفقة زوجته، في وقت كان ارتياد السينما واصطحاب الزوجة، أمرين يثيران غبار الفضيحة».
يبقى التهامي الوزاني أحد كبار الوطنيين والمثقفين المغاربة الذين تعرضوا للإقصاء، بسبب التقسيم بين النفوذ الفرنسي والإسباني في المغرب، وأحد من دفعوا ثمن المخطط الفرنسي لجعل شمال المغرب منطقة معزولة تماما عن بقية التراب المغربي.
غارسيا بالينو.. المفوض السامي الإسباني الذي أمسك العصا من الوسط
اسمه الجنرال Garcia Valino، لكن أهالي منطقة الشمال، وصولا إلى وجدة، كانوا ينادونه «بالينو».
بعد أن بصم على مسار عسكري لافت في الجيش الإسباني، شغل منصب المفوض السامي في منطقة الشمال ما بين سنتي 1951 و1956، ليكون آخر من يشغل المنصب.
لم تكن العلاقة بين الجنرال والحماية الفرنسية على ما يرام، فقد اتهمته تقارير SDEC الفرنسية، بعد أشهر من تعقب الاستخبارات لاتصالاته وعلاقاته مع المغاربة في الشمال، بالتغاضي عن رفع معلومات إلى مدريد بشأن أنشطة نقل السلاح سنة 1953.
والحقيقة أن عددا من الوطنيين اعترفوا بأن السلطات الإسبانية كانت تغض الطرف عن أنشطة المقاومة المغربية في الشمال، ولم تمنع نقل السلاح في اتجاه داخل المغرب، وهو ما اعتبره الفرنسيون تقاعسا من سلطات فرانكو، خصوصا وأن السلاح الذي نُقل عبر شمال المغرب، شكل عصب العمليات المسلحة التي شنتها المقاومة ضد الفرنسيين، بعد نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف.
من الشهادات التاريخية المهمة التي سلطت الضوء على العلاقة بين الجنرال بالينو والمغرب، تلك التي سجلها المقاوم إبراهيم النوحي، الذي يعتبر علبة سوداء لجيش التحرير في منطقة الصحراء، حيث رافق المقاوم محمد بن حمو.
وقد ألف النوحي كتابا مهما في هذا الصدد، اختار له العنوان التالي: «محمد بن حمو والحسن الثاني وأسباب الاندماج»، جاء فيه:
«من أهم اللحظات المعبرة عن العلاقات المغربية الإسبانية في هذه الفترة، استقبال الملك محمد الخامس في شهر أبريل 1956، مساء يوم الجمعة، الجنرال غارسيا فالينو، المندوب السامي الإسباني في تطوان، وقد اعتبر هذا الأخير اللقاء شرفا عظيما له، وأكد على صداقته الخاصة للمغرب ملكا وشعبا. كما قدم وفد مغربي سنة 1956 ترأسه د. عبد اللطيف بن جلون، مصحوبا بعبد الرحمان اليوسفي هدية اعتراف وتقدير للجنرال غ. فالينو، اعترافا له بالمساندة التي قدمها للمقاومة وجيش التحرير. ومن جانب آخر كانت علاقة جيش التحرير بالمسؤولين الإسبان بالجنوب متواصلة باستمرار، بحيث لم يكن الفرنسيون راضين عن الإسبان بهذا الخصوص، وقد عبروا عن ذلك في أكثر من مناسبة. وبالفعل التقى إدريس العلوي، وهو منسق العمليات الحربية في قيادة جيش التحرير، مصحوبا بمسؤولين آخرين في القيادة مع مسؤولين إسبان في الجنوب، ويذكر أن جيش التحرير تمكن من إقامة عدة مراكز له في المناطق الجنوبية والصحراء».
حسب بعض المصادر، فإن حياة «بالينو» بعد عودته إلى إسبانيا في نهاية الخمسينيات عرفت بعض المطبات، وتعرض للإقصاء، رغم أنه شغل سابقا رئيسا لأركان الجيش. ونقلت المصادر نفسها أن «بالينو» دفع ثمن تعاطفه مع المغرب، إذ رغم أنه عُين مديرا للمدرسة العليا للجيش سنة 1957، مباشرة بعد عودته إلى إسبانيا، إلا أن بعض المتطرفين الإسبان كانوا يرون فيه جزءا من ماض «لا يرغبون في تذكره». وهكذا فإن الجنرال «بالينو» غادر منصبه سنة 1964، لكنه لم يتقاعد، ونقلت الصحف الإسبانية أنه كان من بين المساهمين في تأسيس الخطوط الجوية الإسبانية، لكنه سرعان ما أزيح عن الإدارة وعاش مهمشا لفترة، إلى أن توفي سنة 1972، لتُدفن معه أسرار كثيرة عن كواليس تعامل الإسبان مع منطقة شمال المغرب ومع المسؤولين الفرنسيين في خمسينيات القرن الماضي، قبيل استقلال المغرب.