شوف تشوف

الرأي

ثقافة القرابين البشرية

في يوم (الجمعة) وفي (رمضان) من عام 1436 هـ، الموافق 26 يونيو من عام 2015 م دخل انتحاري إلى (مسجد الإمام جعفر الصادق) في الكويت ففجر نفسه بحزام جهنمي فتمزق مزعا، وأخذ معه إلى عالم القبور من جمهور المصلين 27 قتيلا و222 جريحا ومعطوبا ومعاقا.
بنفس اليوم إلى الغرب في تونس حيث يتشمس الأجانب من طليان وجرمان وبريطان وفرنساوية في (منتجع سوسة) السياحي؛ هجم عليهم إرهابي (غيور على الحق والفضيلة كذا؟) من البحر وبيده القنابل والرشاش؛ فحصد من أرواح المصطافين الأجانب في دقائق معدودة 37 روحا، وحرصا على سلامتهم فقد رافقهم إلى العالم الأخروي، في عالم أنوبيس السفلي، في زورق شارون الكئيب يحمل أرواح الموتى في نهر الآخرة.
وإلى الشمال هجم رجل متحمس على مصنع للغازات في مدينة (ليون) في فرنسا وحاول تفجير المصنع وترك خلفه رأسا مقطوعا على السلك. وقبل أسابيع هجم أيضا إرهابي في مسجد القديح في المنطقة الشرقية من السعودية ففجر نفسه يوم الجمعة حيث يحتشد الناس ويركعون، وبعده بأسبوع في الدمام من نفس المنطقة موعد مشابه، فحمل الاثنان إلى عالم القبور عشرات القتلى، وخلفا عشرات الجرحى والمعطوبين والمعاقين إلى يوم الدين.
هذه المؤشرات تقول إن المساجد وأماكن العبادة وأماكن التجمع والسياحة والفنون والمسارح والسينمات والفنادق (كما قتل العقاد وابنته في عمان) أصبحت أماكن في غاية الخطورة يجب على المرء تجنبها ما أمكن.
وهذه القصص تذكر بقصص أخرى فقد تم قتل وزير الصناعة اللبناني (بيار الجميل) في 21 نوفمبر/ 2006 ضربا بالرصاص في سيارته، وهو ليس الأول ولن يكون الأخير في ساحة لبنان، ومن قبل قدم المجرمون قربانا جديدا في أعياد الميلاد في 12 دجنبر 2005م حيث تم نسف (جبران التويني) رئيس تحرير جريدة النهار اللبنانية على الطريقة التقليدية: سيارة مفخخة، وأشلاء متناثرة.
وفي كلا المشهدين تطالعنا نفس الصورة: نساء باكيات نادبات ووجوه مكفهرة حزينة، واتهامات متبادلة، البريء الوحيد فيها الشيطان، وشياطين الإنس المجرمون عددهم كرمل عالج.
والقتل هو طريقة تصفية الحساب بين السياسيين، ومن يدفع ثمنه المفكرون والشخصيات الهامة.
ومن قبل طلب بنو إسرائيل قربانا تأكله النار، فقال القرآن: قل قد جاءكم رسل من قبلي بالذي سألتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين.
وكل من (بيار جميل) و(جبران تويني) كان قربانا للعنف على أعياد ميلاد المسيح عليه السلام. فلحقا بالمسيح، والمسيح من قبل هم به قومه بالقتل فأنجاه الله. وليست النجاة شرطا في كل مرة، فكثير من الأنبياء قتلوا.
وفي الإنجيل فإن شمس الله تشرق على الأبرار والأشرار.
وهكذا اعتقل المصلح الديني (جان هوس) التشيكي في الثالث من نوفمبر 1411 م وأُخضع لحفلة تحقيق جهنمية من أجل كتاباته وأُدين في 6 يوليوز 1415 م بسبب ثلاثين جملة اعتبرت (هرطقة) وحكم بأن يحرق (حياً) ونفذ الحكم في نفس يوم إصداره.
وفي 27 أكتوبر 1553 م أدين الطبيب الإسباني ( ميشيل سرفيتوس) مكتشف الدورة الدموية الصغرى بسبب قوله بالتوحيد وتعميد البالغين ولم تشفع له دموعه وتوسلاته في تحويل الحكم إلى الشنق أو قطع الرأس فأُحرق حيا.
وفي 21 مارس 1556 م كان المصلح الديني البريطاني (توماس كرامر) يشغل منصب (أسقف كانتربري) أول مترجم للإنجيل إلى اللغة الإنجليزية يضبط على آرائه الخطيرة في الإصلاح الفكري ويساق إلى المحرقة ليشوى على نار هادئة وجمع غفير يتأمله وهو يزعق.
وفي 19 فبراير عام 1600 م مع فجر القرن السابع عشر كان المصلح الديني (جيوردانو برونو ) الإيطالي على موعد مع نفس المصير فأحرق على ألسنة اللهب المتصاعدة حياً وكان عمره 52 سنة، بعد اعتقال مضن وإذلال دام 8 سنوات في الفاتيكان والخضوع لكل أنواع التحقيق والتعذيب. بسبب رأيه الكوسمولوجي عن كون بدون حدود، ومجرات لانهائية تتزاحم في الملأ العلوي.
وفي عام 399 قبل الميلاد تم تنفيذ حكم الإعدام في أثينا الديموقراطية بشيخ بلغ السبعين عاماً بتجرع قدح سم الشوكران. تم اتخاذ الحكم أمام هيأة محلفين مكونة من 501 عضو وكانت التهمة التي أدين فيها بغالبية 36 صوتاً ليس لذنب ارتكبه أو جريمة اقترفها؛ بل لأنه يفسد عقول الشباب بالآراء التي ينشرها. كان المدان الفيلسوف اليوناني (سقراط 470-399) أعظم فلتة عقلية أنتجها مجتمع أثينا؛ والذي تجرع السم ورفض محاولة الهرب.
وطار رأس أبو الكيمياء الحديثة (أنطوان لافوازييه) بنصل المقصلة التي اخترعها الدكتور جيلوتين أيام الثورة الفرنسية تخفيفاً لعملية الذبح.
وسلم الروح (سبارتاكوس) صلباً على عمود ثائراً على روما عام سبعين قبل الميلاد.
وأنهى الإمام ابن تيمية أيامه الأخيرة في سجن القلعة في دمشق وهو يكتب بالفحم على الجدران مثل المجانين بعد أن حرم من القلم والقرطاس.
وقطع رأس النبي يحيى في جو عربدة إرضاء للراقصة سالومي. ولا يشذ تاريخنا عن هذه القاعدة فابن حنبل ضرب إلى حافة الموت، وأبو حنيفة مات مسموماً، وابن جرير الطبري المؤرخ دفن بالليل سراً عام 310 هـ بسبب رميه بالزندقة وهو الذي وصف الفقيه (الأسفراييني) كتابه (التفسير الكامل) بأنه لو سافر رجل إلى الصين من أجله لما كان كثيراً عليه.
ويسأل الحجاج عالماً ما اسمك؟ فيجيب: سعيد بن جبير فيذبحه قائلاً: بل أنت شقي بن كسير، في تصفية أموية لكل المادة الرمادية في المجتمع.
وفي يوم العيد يقف أحد الجلادين يخاطب الجمهور أنكم تضحون اليوم وأنا سأضحي بالجعد بن درهم ثم ينحره كالكبش الأملح.
ووصف ابن أبي أصيبعة (شهاب الدين السهروردي) بأنه (أوحد في العلوم الحكمية بارع في الأصول الفقهية مفرط الذكاء جيد الفطرة) ولكن خصومه شنعوا عليه ورموه بالتفلسف والإلحاد بعد أن ناظرهم في حلب فأفحمهم فعملوا محضراً بكفره ورفعوه إلى السلطان (صلاح الدين الأيوبي) وطلبوا منه استئصال الشر بقتله حتى لا ينفث إلحاده بكل بلد يحل فيه فكان لهم ما أرادوا فقتل سنة 587 هـ عن 36 عاماً وأخذ لقب (الشاب المقتول) في التاريخ.
وأما (سلطان العلماء) الشيخ (العز بن عبد السلام) فقد أغرى به خصومه الملك (الأشرف) بن الملك العادل الأيوبي أنه (زائغ العقيدة منحرف عما صح من العقائد الدينية الصحيحة) وأفتوا بأنه كافرٌ حلال الدم، ورسا مصيره بأن حكم السلطان عليه: (بألا يفتي ولا يجتمع بأحد وبأن يلزم بيته). وكان مصير الحلاَّج أن ضبطه الوزير المحقِّق بكلمة قالها القاضي (يا حلال الدم) فحكمه بالإعدام وهو يصيح فيهم : الله الله في دمي. فضرب ألف سوط وقطعت أطرافه وأحرق.
مغزى هذه القصص التي ترتجف منها المفاصل أن المجتمع لا يتقدم إلا بالفكر على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع، وأن الجديد يعارض دوماً وأن النافع يثبت وأن التاريخ تقدمي.
وفي الإنجيل لن تخرج النبتة إلا بعد دفن البذرة في الأرض وكذلك موت المفكرين العظام.
إنني ضد القتل بأي شكل لأنه جنون ودمار وإفلاس أخلاقي. وحين سئل سقراط عن الحرب الأهلية قال إن لم يكن بد فلن أقتل بل أتحمل أن أموت، وهذا هو مفتاح إلغاء كل الحروب ومسلسلات القتل.
ويجب أن لا نفرح بمقتل أي إنسان، ومن واجه القتل بالقتل فالقاتل والمقتول في النار. يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء.
وأمام ظاهرة القتل نرى تناقضا يكاد لا يفهم، فالموت والقتل لا يقوم تماما على طريقة عادلة، ومن يقتل (بالضم) هم الأنبياء والمصلحون والفلاسفة والمفكرون ورؤساء تحرير جرائد وكتاب أحرار كما حصل مع بيار جميل والتويني وفرج فودة ومحمود طه ومصطفى عقاد وغاندي ومن قبل سمير قصير وباقر الصدر ورفيق الحريري.. وآخرون من شكلهم أزواجا ذكورا وإناثا.
قتل كل أولئك مع أنهم دعوا للسلام بين الأنام، ومع ذلك قتلوا، فلا تشترط النجاة من القتل لمن أعلن أنه لن يمد يده بالقتل ولو قتل.
والأنبياء جعل الله لهم من المجرمين عدوا وكفى بربك هاديا ونصيرا. وفي قصة ولدي آدم أعلن هابيل أنه لن يقتل ولم يمد يده بالقتل ولو تعرض للقتل، فطوعت لقابيل نفسه فقتله فأصبح من الخاسرين.
هكذا قتل غاندي برصاصة تافهة من هندوسي متعصب كما يصعق تيار كهربي إنسانا من لحم، أو يقتل فيروس تافه بدنا في أكمل توازنه.
هكذا قتل غاندي غيلة كما يهلك أي جرثوم أعظم روح.
وهكذا قتل مارتن لوثر كينج الأسود وهو يقول في ندائه المشهور (عندي حلم I have a Dream) بأن يرى يوماً الأطفال السود والبيض يدا بيد يغنون قصيدة مشتركة ويعيشون حياة متناغمة يسودها الحب والسلام.
المهم لنا أن نفهم لماذا يحدث هذا؟ وما خلفه؟ ومسبباته؟ والجواب أنها الثقافة. بكلمة أدق ثقافة القرابين البشرية التي يجب إعادة النظر في فلسفتها لتفهمها، فمع أول لحظات تشكل الخلق الإنساني سألت الملائكة عن جدوى هذا الخلق فلم يؤرقها (الكفر)، بل (القتل): أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء؟

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى