الرأي

جائحة الأزمنة الحديثة

بدر الحمري

لم تكن الأزمنة الحديثة مصدر إلهام للبشرية فقط؛ فبقدر ما كانت مصدر إزعاج لضميرها الحي بقدر ما كانت تتساقط هنا أو هناك بعض اللحظات السعيدة أو الهاربة من السعادة؛ ومنذ أن تفنن الفيلسوف الفرنسي ديكارت في قوله الشائع «العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس»، ونحن نعتقد جازمين بأننا يمكن النجاة بعقولنا وحساباتها الرياضياتية فقط. لم نسأل أنفسنا هل يمكن التفكير خارج مربع العقل الأداتي الحديدي، كما فهمه بعض الدارسين من التصور الديكارتي؟ وهل يمكن الكف عن النظر إلى الطبيعة بلغة المربعات والمثلثات؟ لقد كان كافيا في أزمنة سيطرة الكنيسة على عقول الناس، أن نشهر سلاح العقل في وجه كل محاولة يمكن أن تسلبه شرعيته التاريخية والإنسانية، منذ الفيلسوف اليوناني أرسطو على الأقل، والذي تعلمنا منه وممن كان في دائرته الفلسفية أن الإنسان كائن ناطق، أي عاقل.
لكن ديكارت لم يقف عند هذا القول، بل زاد عليه قولا آخر فتح الباب أمام تأويلات تستنزف خيرات الطبيعة، وذلك حين أكد بنبرة فيها من التسلط على الطبيعة ما يكفي، حيث قال: «علينا أن نكون سادة على الطبيعة ومالكين لها». هذه هي مشكلتنا مع ديكارت؛ فنحن نريد أن نكون سادة على الطبيعة، وفي الآن نفسه نريد أن نكون ذلك الإنسان العاقل المفكر، الحر، الواعي، الشاك، الناقد. فكيف تلتقي السيادة مع العقلانية، أو التسلط مع الحرية؟
عندما يريد ديكارت أن يكون سيدا على الطبيعة، فهي عبودية جديدة ربما تكشف لنا عن لاوعي الإنسان في بداية الأزمنة الحديثة، يمكن أن نصفه بلاوعي التسيد، أو لاوعي الاستعباد، وكلاهما صالح اليوم لفهم ما يجري في العالم من انتشار واسع لفيروس كورونا، حتى أصبح جائحة عالمية تحرث
«العقلانية المتصلبة» التي تشدق بها الإنسان منذ قرون، رُغم أنه نُبِّه في عديد من المرات إلى المصير الذي سيلقاه على يد الطبيعة ومنذ عشرات السنين، لأن الفيروسات لها علاقة تاريخية مع الإنسان المدمر العنيف الجشع، فقد حصدت الملايين من الأرواح وما زالت مستمرة في دفاعاتها المتخفية، إنها تضرب من دون نستشعر ساعة الصفر عندها، توقيتها خارج كل توقيت، واستراتيجيتها في الهجوم على الإنسان لا يمكن التنبؤ بعدد ضحاياها، أو المدة التي سينتهي فيها هذا الهجوم.
أما أصحاب الضمائر الاقتصادية فلا حاجة إلى الإشارة إليها هنا، لأن ضمائرها لا تعيش إلا على منطق الربح والخسارة، ولا تصحو إلا لماما، أو عندما تغرق البشرية في جائحة عالمية كما يحدث اليوم مع جائحة عالمية مثل «كوفيد-19»، فأمريكا وحدها أَحصت 160 ألف إصابة إلى حدود مساء 30 مارس 2020؛ حيث تهرع تلك الضمائر الاقتصادية إلى إطفاء نيران الجائحة وتغولها على البشرية بضخ المليارات حتى تصبح بلايين تفوق الخيال، وقد كان من الممكن تجنب هذا الوباء بترشيد الاقتصاد، والتوقف عن التجارب الخطرة التي تهدد حياة البشرية بحجة الدفاع عن النفس.
الجائحة الخفاشية أو الوطواطية (نسبة إلى الوطواط أو الخفاش، المتهم بكونه مصدر الفيروس)، هي أكبر منافس اليوم لتغول الروح البشرية النهمة، ولهؤلاء الآلاف الذين كانوا يعيشون حياة فوق البشرية، ولا يبالون بناقوس الخطر الذي يهدد البيئة أو الطبيعة التي منها أصلنا وإليها مصيرنا، متمسكون بفرص الأزمنة الحديثة وتقنياتها المتقدمة، لكنهم غير مبالين متى الموعد… متى الموت الذي يدق فيه الناقوس الأخير! فيروس كورونا أو «كوفيد-19»، حول الإنسان بكل أسلحته النووية وتقنياته المتطورة إلى فتات كائن يسمى بلاغة: إنسان متحضر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى