الرأي

قهوة فلسطينية في نيويورك

محمد رشاد عبيد
أعترف أنني من عشاق القهوة الفلسطينية اللذيذة، خاصة قهوة مدينة جنين، 57 كيلومترا إلى شمال مدينة القدس التاريخية، تلك القهوة الفريدة من نوعها، وفي طريقة صنعها وتحضير خلطتها تلك، حيث تعصر وتطحن في مصانع إلكترونية خاصة، وتعبأ في عبوات بلاستيكية محكمة الإغلاق، وهي مركزة، رائحتها الزكية تعبق المكان، قبل أن تباع في مراكز البيع في شوارع وأحياء مدينة جنين، شمال الضفة الغربية، كما في بقية المدن الفلسطينية، لكن جنين هي الأوسع انتشارا لمحلات القهوة الفلسطينية، وكذلك باعتها المتجولين في شوارع جنين، الذين يحضرون القهوة الطازجة ويبيعونها في فناجين بلاستيكية، ويطرقون بكوبين آخرين بأيديهم من السيراميك لجلب ولفت انتباه زبائنهم، شاربين تلك القهوة اللذيذة، وإذا صح التعبير مجازا أن نطلق على مدينة جنين التاريخية (مدينة القهوة الفلسطينية).
فلسطين السباقة والمضيافة والحضارة العربية، التي تحضر وتتجلى في أنصع صورها في كافة المحافل الدولية والعربية، فلسطين كبيرة وسوف تظل كذلك في قلب وعين كل عربي، حتى تحرير كل شبر في أراضيها وعاصمتها القدس الشريف…
لم أذق طعم قهوة جنين إلا مرة في حياتي، كانت في العام 2016، حينما كنت في زيارة إجبارية إلى الأردن، بعد عرقـلة رحلتي إلى عدن، وأهداني صديقي محمد البرغوثي علبة من تلك القهوة التي لم أذق مثلها قط في حياتي، التقيت به صدفة في مطار الملكة علياء الدولي، والذي كان مسافرا من عمان إلى ميونيخ، للقاء زوجته الألمانية على ما أتذكر.
كلمة الـسر في قهوة جـنين العجيبة، هي وضـع مـنها كـمية ليسـت قليلة في إبريق التحضير، أثناء الغلي علـى النار، مع إضافة كمية ماء قليلة لكي تـصبح القهوة مركزه للــغاية، حتـى تبدو أكثر تركـيزا من الكابتشـينو الأمريـكي هنـا في نـيـويورك.
أتذكر مرة أني شعرت كأني أحتسي قهوة فلسطينية هنا في نيويورك، في أحد أيام شهر أبريل من العام 2015، حينما دعيت للتعليق على الأحداث الميدانية الملتهبة في بلدي اليمن على قناة «روسيا اليوم»، خاصة المواجهات المسلحة بين الانقلابيين الحوثيين والقوات الشرعية اليمنية من جهة أخرى، ووصلت إلى مكتب القناة مبكرا كعادتي، استقبلتني في المكتب ذاته الأستاذة منى مراد الزعبي، وهي أمريكية المولد فلسطينية الأصل، مديرة الإنتاج في القناة، وقامت بسؤالي هل ترغب في كوب من القـهوة؟ أجبتها لا داعي لذلك، لكنها أصرت، رحبت بذلك، فقامت بنفسها تجلب لي ذلك الكوب، من ماكينة القهوة، وقـدمتها لي، قمت بشربها وقالت لي بلكنة فلسطينية خالصة:
«نورت المكتب، كثير مبسوطة بحضورك، وأنا معجبة جدا بطـرحك وتنـاولك للمـلف اليـمني»، قلت لها شاكرا: «حقيقة تذكرت لما قدمت لي القهوة قهوة جنين الفلسطينية»، قالت لي: «هل جربتها؟»، قلت لها «أتطلع إلى ذلك». لكن طريقة الضيافة الفلسطينية في تقديم القهوة، تبعث سرورا وبهجة للشخص الضيف، بكل الأحوال، مر عام واحد على ذلك اللقاء، وتذوقت تلك القهوة الفلسطينية اللذيذة والساحرة المذاق في العاصمة الأردنية عمان، والفضل في ذلك يعود لصديقي محمد البرغوثي، الذي تعرفت عليه في مطار الملكة علياء الدولي.
سنوات مضت منذ ذلك الحين وقهوة جنين عالقة في ذهني وروحي، ومذاقها في فمي كلما أرتشف كوب قهوة أمريكية أو تركية.
ويحدوني الأمل أن يفتح فرع «كافي» فلسطيني في نيويورك، والجالية الفلسطينية كبيرة ومن أنجح الجاليات العربية في الولايات المتحدة، من حيث العدد والعقول العلمية والتجارية، بكل المقاييس، وما يميزها مجلس الجالية الفلسطينية أنه متماسك وسريع الاجتماع وأكثر وحدة، وليس ممزقا مثلما هو الحال عليه في الجالية اليمنية في الولايات المتحدة برمتها، ومشروع صغير كهذا لن يحتاج الكثير، خاصة وهو ينقل للعالم جزءا من التراث الفلسطيني، وأيضا يحمل جزءا صغيرا للتذكير بالقضية الفلسطينية الكبيرة، التي لا يختلف اثنان على عدالتها، رغم صمت هذا العالم المنافق، لكل ما يجري من مصادرة لأراضيها وحقوق شعبها، ولا يمكن اخترالها في كيس أو كوب قهوة منعشة وطرية تباع صباح كل يوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى