
يونس جنوحي
«علينا أن نقف قليلا مع جواب جلالة الملك الحسن الثاني على خطاب الرئيس كينيدي في أواخر مارس 1963، فهو إلى جانب أنه وثيقة تاريخية رائعة بالنسبة إلى ماضي أمريكا والمغرب، فإنه، أي الجواب، وضع الشعب الأمريكي في الصورة الحقيقية التي ينبغي له أن يتوفر عليها في ما يمس علاقته بالمملكة المغربية: فمنذ أزيد من عشرين سنة سمعت أمريكا عن المبدأ المغربي، الذي التزم به جلالة المغفور له الملك محمد الخامس في ما يتعلق بعدم التبعية، وهو المبدأ الذي كان ينادي به الرئيس جورج واشنطن والرئيس توماس جيفرسون… ومنذ أزيد من عشرين سنة عبر جلالة الملك عن تعلق المغرب بسيادته الوطنية ووحدته الترابية، كشعار حي دائم يتمسك به الشعب المغربي إلى آخر رمق من حياته!».
الكلام هنا للدكتور عبد الهادي التازي، أبرز من تخصص في العلاقات المغربية الأمريكية. إذ إن هذا الأخير يقدم رؤية مغايرة لتاريخ المساعدات الأمريكية للمغرب.
برنامج مساعدات يؤسس للعلاقات المغربية الأمريكية في عهد الحسن الثاني
لم يكن هذا البرنامج سوى الاتفاق الذي وقعه الملك الراحل الحسن الثاني في زيارته التاريخية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استقبله الرئيس جون كينيدي. واعتبر ذلك الاتفاق تاريخيا، بحكم أن التقارب بين الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس جون كينيدي جاء في سياق دولي صعب، كانت فيه أغلب الدول العربية تتحالف مع الاتحاد السوفياتي، وتحظى باتفاقيات أسلحة سوفياتية، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط «شديدة الغليان».
في ذلك الوقت كانت الخارجية الأمريكية مهتمة كثيرا بتلميع صورة الرئيس كينيدي في أوساط الأمريكيين، بحكم الحرب الباردة ضد السوفيات.
ولكي يطمئن الأمريكيون شعبهم بأن رئيسهم يحظى بشعبية كبيرة، كانت الزيارة التي قام بها كينيدي إلى المغرب، فرصة «وحيدة» أمام الرسميين الأمريكيين لكي يؤكدوا للشعب أن كينيدي لا يزال يحظى بشعبية دولية، وأن الولايات المتحدة ما زالت تحتفظ بحلفاء فوق الخريطة.
حسب أرشيف أشهر موظفي «CIA» في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي جمعه المخضرم «ويليام بلوم»، فإن بعض عملاء هذا الجهاز، الذين حلوا بالرباط، قبل شهر أكتوبر 1963، موعد زيارة «جاكلين كينيدي» إلى المغرب، اكتشفوا سريعا أنه لم تكن هناك أية خطورة على حياة السيدة الأولى، وهكذا توجهوا إلى اكتشاف المطبخ المغربي، إذ كانت صحون «البسطيلة» المغربية التي حظيت بإعجابهم جميعا لا تغادر مكاتبهم، حيث يرابطون إلى جانب أجهزة التلفون للاتصال بمكاتب السفارات الأمريكية، ومتابعة ما يُكتب عن الولايات المتحدة في الصحافة المحلية.
اطمئنان الأمريكيين إلى جودة النقل التلفزي في المغرب، رغم الصعوبات التقنية وبساطة المعدات المعتمدة في السنوات الأولى لإطلاق التلفزة المغربية، كان مرده إلى وجود نخبة من التقنيين المغاربة اشتغلوا في التلفزيون خلال السنوات الأولى لإطلاق التجربة.
وقد ساهم هؤلاء التقنيون فعلا في تأمين الصور التي احتاجتها الخارجية الأمريكية، وبثت مقاطع في التلفزيون الأمريكي لموكب الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس كينيدي، في طريقهما إلى القصر الملكي محاطين بالحشود.
هذه الزيارة كانت فرصة لكي يحصد المغرب حظوظا أوفر للاستفادة من حصص تمويل إضافية، في إطار برنامج المساعدات الأمريكية للدول الصديقة.
وبفضل هذا البرنامج الذي صرف للمغرب ملايين الدولارات مع بداية الستينيات، توفرت السيولة الكافية لتأسيس مصالح عدد من الوزارات المغربية، مثل التعليم والصحة، بل وأنقذ الموسم الفلاحي أيضا ما بين 1963 و1965.
في سنة 1966 لم تكن العلاقات المغربية الفرنسية على ما يرام، بسبب تداعيات ملف اختفاء المهدي بن بركة. وانقطعت العلاقات بين الرباط وباريس، بسبب الاتهامات والرسائل الخفية بشأن تفاصيل الاختفاء. وهو ما جعل الأمريكيين يقفزون درجة إضافية في سُلم الصداقة مع المغرب، بعد أن تراجعت فرنسا، الحليف التاريخي، إلى الوراء.
بيل كلينتون.. آمن بعمق الصداقة مع المغرب بعيدا عن المساعدات
في فترة حكم الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، وقع المغرب مع الولايات المتحدة برنامج مساعدات كانت إتماما لمسلسل أشاد الأمريكيون بجدواه في التعامل مع المغرب.
إذ إن واشنطن، بحسب أرشيف «CIA» لسنة 1980، اكتشفت أن المغرب حقق فعلا النتائج المرجوة من برنامج لتمويل مشاريع التعليم وتأهيل القرى، وأيضا سد الخصاص في المجال الفلاحي. في حين أن دولا مجاورة، لم تحرز أي تقدم من وراء البرنامج الأمريكي، رغم أن حصص استفادتها كانت أكبر.
برامج البنك الدولي كانت واحدة من المنصات التي دعمت فيها الولايات المتحدة ملفات عدد من الدول للفوز بأغلفة مالية مهمة لتمويل مشاريع، من بينها محاربة الأمية.
وبحسب التقرير الذي تسلمه الرئيس بيل كلينتون سنة 1996، فإن المغرب استفاد من برنامج تمويل في إطار محو الأمية، وبرنامج من الخارجية الأمريكية للدعم الفلاحي، وكلا المشروعين حققا الأهداف المتوخاة منهما منذ إطلاقهما بداية الثمانينيات.
السفير الأمريكي في الرباط في بداية التسعينيات، كان قلقا من سياسة الرئيس الليبي معمر القذافي. وهذه النقطة، بحسب أرشيف «CIA»، جعلت الأمريكيين يركزون على العلاقات المغربية الليبية، سيما في ظل وجود ملف المغاربة المعارضين وأنشطتهم في ليبيا التي فتحت ترابها أمامهم، بل واقترحت على بعضهم جوازات سفر ليبية.
برنامج المساعدات الأمريكية للمغرب كان الهدف منه تخفيف حدة المشاكل الاقتصادية التي كان يعيشها المغرب. وكانت هذه الفلسفة الأمريكية مع المغرب منذ 1962، ترمي أساسا إلى إعدام أي فرصة من شأنها أن تسمح لروسيا بتقوية العلاقات مع المغرب.
إذ إن ما يربك الأمريكيين هو إحراز السوفيات لصداقات مع دول جارة للمغرب، أولها الجزائر وليبيا. وكان هناك تخوف أمريكي من أي نشاط سوفياتي من شأنه أن يطور صداقة مع المغرب.
لذلك كانت البرامج الأمريكية الموجهة إلى الرباط، في إطار الدعم والتمويل، مكثفة، وذات جدوى.
لكن عند تأمل المعطيات التاريخية، يظهر جليا أن الأمريكيين لم يُقدموا في الحقيقة سوى على «رد الجميل» إلى المغرب. إذ إن الخطوات التي اتخذتها الإيالة الشريفة مع الأمريكيين منذ 1777، مرورا بمحطات 1790 و1822، تبقى دليلا على الكرم المغربي مع الأمريكيين، قبل أن توجد أو تتأسس الدول التي يتخوف منها الأمريكيون في سياق تسعينيات القرن الماضي.
كان الرئيس بيل كلينتون، بحكم صداقته المتينة مع الملك الراحل الحسن الثاني يفهم جيدا عمق الصداقة المغربية الأمريكية، لكن موظفي «CIA» لم يكونوا سياسيين ويؤمنون أكثر بالتقارير السرية. وهذه التقارير، كشفت وجود أنشطة سوفياتية في الجزائر وليبيا. وفي ظل وجود معارضين مغاربة للنظام وقتها، في هاتين الدولتين، فإن الأمريكيين رغبوا في أن يقطعوا الشك باليقين، ويحرموا السوفيات من حليف استراتيجي محتمل.
هكذا دبّر إيزنهاور إخلاء قواعد أمريكا بالمغرب ولوح بملف المساعدات
الرئيس الأمريكي «إيزنهاور» زار الرباط في دجنبر سنة 1959، في واحدة من أكثر الزيارات الخارجية التي اهتم بها الرأي العام الأمريكي، بحكم أنها كانت تتعلق بمستقبل القوات الأمريكية في شمال إفريقيا، والمغرب على وجه الخصوص باعتباره أبرز دولة في المنطقة اهتم الأمريكيون بحفظ علاقات ودية معها.
مستشارو الرئيس إيزنهاور، بحسب ما ينص عليه أرشيف وثائق «CIA»، نصحوه بعدم تقديم أي خطوات ودية في التعامل مع ملف إخلاء القواعد، والعمل على تعزيز الموقف الأمريكي، وأخبروه أن هناك ملفا على طاولة الحكومة الأمريكية، يتعلق بنقاط برنامج المساعدات الأمريكية للمغرب لسنة 1960.
لكن إيزنهاور لم يستغل هذا الملف، وفوجئ بمرونة في الموقف المغربي. إذ إن الملك الراحل محمد الخامس، ومعه ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وضحا للرئيس الأمريكي أن المغرب لا يتجه في أي اتجاه سياسي لتوطيد العلاقات أكثر مع الاتحاد السوفياتي. حدث هذا في وقت كانت فيه أغلب الدول العربية، قد اتجهت صوب موسكو لخطب الود وتقديم التنازلات.
لكن مشكلة تدبير ملف برنامج المساعدات الأمريكية في ذلك الوقت، كان ترتبط أكثر بالمستشارين العسكريين الذين كانوا مسؤولين عن ترتيب الجلاء من القواعد التي أسسوها منذ 1943، وجل «حِباله» لم تكن في يد مستشاري الرئيس.
والدليل، المراسلات التي يحتفظ بها أرشيف الخارجية الأمريكية في هذا الباب، والتي سبق بالمناسبة أن نُشرت بعضها على صفحات «الأخبار».
السفير الأمريكي في الرباط، كان المسؤول عن التواصل مع الجنرالات وقادة الجيش الأمريكي.
إذ إن السفير نقل عنهم بالحرف أن الجنرال «ناثان توينين» والأدميرال «بورك» قالا له: «لا وجود لأي داع لتليين موقف الولايات المتحدة في هذه المفاوضات». وكانا بطبيعة الحال يقصدان مفاوضات إخلاء القواعد العسكرية لصالح المغاربة. لقد كان هذا الرجل يجلس فعليا على فوهة بركان، كان ممكنا ان يتحول إلى أزمة دبلوماسية. لكن رأينا جميعا كيف أنه تحول إلى محطة عبور نحو مرحلة أخرى من العلاقات، خصوصا خلال بداية حكم الملك الراحل الحسن الثاني والصداقة التي جمعته بآل «كينيدي».
كانت جلسات الشاي مع الملك الراحل محمد الخامس إذن موضوعا للتقارير السرية التي رفعها السفير إلى وزارة الخارجية، حيث كانت الـ«CIA» تعتمد تقارير السفراء كوثائق استخباراتية اعتُمدت خلال فترات حالكة من التاريخ، سيما وأننا نتحدث عن الحرب الباردة.
كان السفير أيضا، وفاء لصداقته مع الملك الراحل محمد الخامس، قد عمل على تحقيق برامج لصالح المغرب، تهم مساعدات مالية ومساعدات أخرى غذائية نهاية الخمسينيات. وكان موضوع تلك المساعدات قد طُرح رسميا مباشرة بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من أول زيارة له إلى الولايات المتحدة الأمريكية في نونبر سنة 1957، لكنها لم تتحقق إلا مع السفير شارلز الذي عمل على تنزيل برنامج المساعدات.
من 1958 إلى سنة 1961 التي أنهى فيها مساره كسفير لبلاده ليتنقل إلى الأمم المتحدة موظفا وممثلا لبلاده، كان «شارلز يوست»، السفير الأمريكي في الرباط، على إدراك تام لحساسية فترة وجوده في المغرب، خلال نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات.
ففي الوقت الذي كان فيه سفيرا في الرباط، عاش المغاربة انقسام حزب الاستقلال وميلاد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. هذه الأحداث جعلت السفير يسلم رقمه الخاص إلى ولي العهد الأمير مولاي الحسن ومحيطه، لكي تستمر الاتصالات بينه وبين المؤثرين في القرار المغربي، حتى بعد انتهاء فترة وجوده في مكتبه لتدبير التقارير. وليس لولي العهد فقط وإنما للوزير الأول عبد الله إبراهيم ولمؤثرين آخرين كانوا في طور الإعداد لمناصب وزارية أقوى خلال عهد الملك الراحل الحسن الثاني، مثل عبد الرحيم بوعبيد وعبد الهادي بوطالب وحتى رضا اكديرة.
بين المذبوح واكديرة وأوفقير.. مهندسو صيغ المساعدات الأمريكية
لم يكن المستشار والوزير أحمد رضا اكديرة مجرد مسؤول رسمي عادي، بل كان صديق طفولة الأمير مولاي الحسن، وترأس ديوانه عندما كان وليا للعهد، وحضر تدبير أهم الملفات المغربية، قبيل الاستقلال. وفي سنة 1961 أصبح أقوى المسؤولين المغاربة، ليس فقط بحكم قربه من الملك الراحل الحسن الثاني، وإنما بالخريطة التي رسمها لنفسه والعلاقات التي ربطها. لكن هذا الوضع لم يستمر طويلا، وفرض عليه أن يتخلى عن العمل السياسي، بعد مواجهات شرسة مع المعارضة، ليعود مع نهاية الستينيات إلى القصر الملكي مستشارا للملك الراحل الحسن الثاني، ضمن فريق من المستشارين بينهم د. عبد الهادي بوطالب وبنسودة.
مهنة المحاماة علمت رضا اكديرة أن يصبح مفاوضا جيدا، لذلك كان المسؤول أمام الملك عن تدبير ملف المساعدات الأمريكية للمغرب سنة 1962.
لكن المعارضة الاتحادية أحرجته، وأحرجت سفارة المغرب في الرباط، عندما سربت وثائق وصورا تؤكد استغلال اكديرة للمساعدات الأمريكية الموجهة أساسا لتمويل برامج اجتماعية، من بينها توزيع المساعدات الغذائية، وتخزينها لاستغلالها في انتخابات 1962.
سيطرة اكديرة على وزارة الداخلية لم تكن كافية للحفاظ على سرية هذا المخطط، وكانت نهايته بتدخل الملك الراحل الحسن الثاني للإفراج عن تلك المساعدات التي وصلت قيمتها إلى ملايين الدولارات.
أما الكولونيل المذبوح الذي قاد المحاولة الانقلابية الشهيرة في قصر الصخيرات صيف سنة 1971، وانتهت أحلامه ممددا فوق عشب قصر الصخيرات مصابا برصاص حليفه في الانقلاب، فقد كان صديقا «فوق العادة» للأمريكيين.
ومنذ سنة 1968، كثرت سفريات الكولونيل المذبوح إلى أمريكا، حيث كان يلتقي كبار العسكريين ورجال الأعمال الأمريكيين. كان المذبوح مكلفا من طرف الملك الراحل الحسن الثاني بتدبير ملف المساعدات الأمريكية للمغرب نهاية الستينيات، خصوصا مع توالي سنوات الجفاف.
وتوصل الملك الراحل الحسن الثاني في هذا السياق بمراسلات سرية من السفارة الأمريكية في الرباط، تؤكد له فيها نزاهة الكولونيل المذبوح في ما يخص ملف المساعدات الأمريكية، وتمويل البرامج الاجتماعية. والنتيجة كانت أن المغرب استفاد من جملة من برامج التمويل والشحنات المجانية من الحبوب والمواد الفلاحية، أكثر من دول أخرى كانت تنافس المغرب للتوصل بنصيب وافر من المساعدات.
لكن تورط الكولونيل في انقلاب الصخيرات عرقل المسار «السلس» -هكذا وصفه الأمريكيون- للمحادثات التي وضعت نقاط وصيغ ملف المساعدات الأمريكية للمغرب.
الملاحظ أن رضا اكديرة ظل بعيدا عن ملف المساعدات الأمريكية للمغرب بعد سنة 1963، ولم يعد اسمه حاضرا في وثائق «CIA» وأرشيف الخارجية الأمريكية.
هذه الوثائق، أكدت أن الجنرال أوفقير تكلف بعده بتدبير هذا الملف، لكنه مجددا سقط في فخ استغلال المساعدات الأمريكية لأهدافه الخاصة، إذ طلب تحويل برنامج مساعدات مهم كان موجها أساسا للتموين الغذائي، واقترح على الأمريكيين استبداله بصفقة سلاح.
وتعود تفاصيل الواقعة إلى بداية سنة 1971، حيث كان برنامج المساعدات، حسب أرشيف سفارة واشنطن في الرباط، قد خصص له الأمريكيون مبلغ 15 مليون دولار. وزار الجنرال أوفقير السفارة مرتين في ذلك العام، في أقل من ثلاثة أشهر، وطلب رسميا من السفير الأمريكي أن يحول مبلغ المساعدات إلى صفقة سلاح لصالح المغرب، وهو ما رفعه السفير إلى واشنطن، مُبديا «صدمته» من طلب الجنرال.
حقائق منسية عن المساعدات المغربية للأمريكيين قبل 3 قرون
في مسألة التأصيل للعلاقات المغربية الأمريكية، اختص الدكتور والمؤرخ والدبلوماسي عبد الهادي التازي في وضع معالم مسار تاريخي حافل، واطلع على الوثائق الأصلية في مقر الكونغرس الأمريكي، والمخطوطات الملكية في الرباط. فكانت النتيجة إصدار سلسلة من المقالات المطولة التي جمع بعضا منها في كتبه عن التاريخ الدبلوماسي للمغرب، وأيضا في بعض نصوص المحاضرات التي شارك فيها، داخل المغرب وخارجه.
وهذا المقتطف الآتي، جزء فقط من مداخلة له، عن مساعدات المغرب للولايات المتحدة، في وقت كان يُنتظر أن يتحدث فيه عن المساعدات الأمريكية للمغرب.
يقول:
«لقد كان الأمريكيون يشعرون بالمفاجأة فعلا وجلالة الملك يتحدث إليهم عن مساعدة أسلافه للولايات المتحدة في بناء استقلالها… كما يتحدث إليهم عن السياسة الأطلسية لجده العظيم جلالة محمد الثالث، عندما اعترف بجورج واشنطن رئيسا أول للولايات المتحدة الأمريكية منذ 20 دجنبر 1777، أي قبل المعاهدة الفرنسية الأمريكية المبرمة يوم 6 فبراير 1778 في المجموعة الإفريقية والعربية والإسلامية والقارة الآسيوية… بل والقارة الأوروبية…
كانت المملكة المغربية سباقة إلى الأخذ بيد الولايات المتحدة… ولو أن الرئيس الأمريكي كرانت أوليسيس سيمبسون (Grant Ulysses Simpson) أدرك بعد المبادرة الجريئة التي قام بها العاهل المغربي محمد الرابع عام 1871، لأصبح المحيط الأطلسي بحيرة سلام تربط المغرب بالعالم الجديد على أساس من التعاون الصادق والمتين…
إن ما كان يجمع بين المغرب والولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى الرعاية والصيانة، لأن الوثائق المغربية التي تتصل بحياة تلك الولايات تكون مادة خصبة لتاريخ أمريكا… ومن ثمة كان على كل الذين كتبوا عن أمريكا أن يستشيروا الأرشيف المغربي الثري بأخبار الأمريكان وتطور حياتهم، إلى أن ركبوا متن الكواكب!
علينا أن نقف قليلا مع جواب جلالة الملك الحسن الثاني على خطاب الرئيس الكندي في أواخر مارس 1963، فهو إلى جانب أنه وثيقة تاريخية رائعة بالنسبة إلى ماضي أمريكا والمغرب، إلى جانب ذلك فإنه، أي الجواب، وضع الشعب الأمريكي في الصورة الحقيقية التي ينبغي له أن يتوفر عليها في ما يمس علاقته بالمملكة المغربية: فمنذ أزيد من عشرين سنة سمعت أمريكا عن المبدأ المغربي الذي التزم به جلالة المغفور له الملك محمد الخامس في ما يتعلق بعدم التبعية، وهو المبدأ الذي كان ينادي به الرئيس جورج واشنطن والرئيس توماس جيفرسون… ومنذ أزيد من عشرين سنة عبر جلالة الملك عن تعلق المغرب بسيادته الوطنية ووحدته الترابية، كشعار حي دائم يتمسك به الشعب المغربي إلى آخر رمق من حياته !
وقد عرف الأمريكان أننا لسنا أيتام تاريخ، وأننا مستعدون للمساهمة في بناء المستقبل على أساس من احترام لمعطيات ذلك التاريخ… وتلك أيضا كانت أصداء المغرب في أمريكا الشمالية: كندا وفي أمريكا الجنوبية بما تحتضنه من جمهوريات ربطنا بها أيضا تاريخ قديم تنطق به رفوف المستندات، كما تنطق به مختلف التقاليد والعادات التي انتقلت إلى تلك الديار عبر إسبانيا والبرتغال!».
عندما أقر رئيس أمريكا بأفضال السلطان محمد الثالث
لم يسبق أن سُلط الضوء على رسائل الأمريكيين إلى السلطان المغربي المولى محمد بن عبد الله، أو المولى محمد الثالث الذي حكم المغرب لفترة ذهبية انتهت بوفاته سنة 1790، بعد أن رسم بنفسه معالم قناة التواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا السلطان الذي حكم المغرب في سياق عصيب، سنة 1757، بخبرة سبع سنوات في التدبير بحكم أن والده المولى عبد الله بن المولى إسماعيل، عهد إليه بتسيير منطقة مراكش وتمثيله فيها.
ورغم أنه لم يكن يتوفر على خبرة سابقة في التعامل مع السفراء الأجانب ودبج نصوص الاتفاقيات مع الدول العظمى، إلا أنه أبان عن حس استباقي كبير عندما دبر الأزمة الأمريكية، وتفوق حتى على دبلوماسيي أوروبا في التعامل مع أمريكا مباشرة، عقب الإعلان عن تأسيسها وانتهاء الحرب الأهلية سنة 1777.
بل إن أول سفير بعثته الولايات المتحدة إلى الخارج، كان قد توجه إلى المغرب، وهذه حقيقة تاريخية منسية تنضاف إلى سلسلة الحقائق التي غفل عنها المؤرخون.
وقد «فجّر» الدبلوماسي عبد الهادي التازي هذا الموضوع، عندما اشتغل في السلك الدبلوماسي واطلع على الوثائق التي بقيت بعيدا عن التداول لأكثر من ثلاثة قرون.
يقول: «وبعد أن صادق الكونغرس الأمريكي يوم 18 يونيو 1787 على نصوص المعاهدة الأمريكية المغربية، قام رئيس الكونغرس بإرسال طلب رسمي إلى الملك محمد الثالث، بتاريخ 23 يونيو 1787، يضمنه التماس الكونغرس بأن يقوم ملك المغرب بمساعيه الحميدة لدى باي تونس وباشا طرابلس، مؤكدا أن تاريخ الشعب الأمريكي سيظل مدينا للمغرب بما تحققه الولايات المتحدة من تقدم ورخاء في المستقبل …
وعن رسالة الرئيس الأمريكي هذه أجاب الملك محمد الثالث الرئيس برسالته الشهيرة …
إلى عظيم اصطادوس الماركانوس البرسدنت، السلام على من اتبع الهدى
أما بعد، لقد وصلنا كتابكم ووصلتنا شروط الصلح التي وجهتم إلينا ونحن معكم على المهادنة والصلح التامين، وها نحن كتبنا بما طلبتم منا لتونس وطرابلس، وكل ما طلبتم منا يقضى إن شاء الله والسلام، في منتصف ذي القعدة عام 1202 17 غشت 1788».
ويضيف في عرض تفصيلي، من مقال مطول نُشر سنة 1986:
«ولقد كانت فرصة لكي يخبر الرئيس الأمريكي العاهل المغربي بوصول رسالته سالفة الذكر، والتي تعبر عن حسن نيات المغرب ليس بوصفه جارا فقط، ولكن بوصفه دولة إسلامية لها مكانتها ومركزها بين الأمم الإسلامية …
ومن المهم جدا أن نعرف أنه بعد أن تم انتخاب الرئيس جورج واشنطن، يوم 4 مارس 1789، خاطب هذا الرئيس العاهل المغربي برسالته التاريخية».
وهنا نرى الرئيس يصارح في جوابه التاريخي ملك المغرب قائلا:
إن أراضينا لا تتوفر على مناجم ذهب ولا فضة… لكنها ثرية، ولنا أن نمني أنفسنا بأننا سنتمكن تدريجيا من أن نصبح مفيدين لأصدقائنا …
وبعد أن شكر الرئيس الملك على التفاتته عندما أفرج عن السفينة الأمريكية وملاحيها، يعترف لدبلوماسية المغرب ممثلة في شخص الملك، بالشجاعة والشهامة والحكمة والأريحية …
وقد حرر هذا الخطاب بمدينة نيويورك في أول دجنبر عام 1789، ووقعه الرئيس جورج واشنطن بنفسه، بعد أن انتخب رسميا يوم رابع مارس 1789 كأول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية على ما أسلفنا».