محمد الخامس لم يمانع في تكوين الضباط بالأمازيغية وهذه ذكرياتي مع الجنرال الكتاني وعلال الفاسي

يونس جنوحي
مع الجنرال الكتاني.. «مون جنرال»
التدريب في بنسليمان جعلنا نتعرف على وجوه من أفراد الجيش الملكي، من مُختلف الرُتب، خصوصا من الجيل الذي قضى فترة في الجيش الفرنسي وأحرز ألقابا في الحرب العالمية الثانية، ضمنهم الكتاني أحد أوائل العسكريين المغاربة الذين حصلوا على رتبة جنرال، وحاز من قبلُ درجة مرموقة جدا في الجيش الفرنسي. كنا نفتخر بأن الجنرال الكتاني أول من حمل رتبة جنرال دو بريكاد في المؤسسة العسكرية بعد تأسيسها سنة 1956.
سُمعته بيننا كانت تسبقه. فقد كان معروفا عنه أنه اتخذ موقفا مشرفا سنة 1955 عندما أرادت فرنسا استقطابه لكي يكون عضوا في التشكيلة التي أرادت بها فرنسا تعويض السلطان سيدي محمد بن يوسف، بعد استحالة استمرار بن عرفة على العرش. ونجح الجنرال الكتاني في إبعاد نفسه من هذا المأزق السياسي، وأجاب الحكومة الفرنسية بأنه تلقى تكوينا عسكريا، وألا علاقة له بالسياسة ولا يفقه فيها وليس لديه أي طموح لكي يعتنقها، ونأى بنفسه بعيدا عن تحمل أي وِزر في ذلك المخطط.
أهم خصلة لدى الجنرال الكتاني أنه كان ينتصر لصاحب الحق كيف ما كانت رُتبته، خصوصا عندما أصبح قائدا عاما للجيش الملكي. فقد وصل إلى سمعه مرة، أواخر سنة 1959، أننا نخوض إضرابا عن الطعام في فترة التدريب، بعد أن تماطلت الإدارة في التعامل مع ملفنا، وبدأنا نشعر – نحن قدماء المقاومة وجيش التحرير- بأننا نُسينا تماما.
فقد كان الطعام قليلا، وشعرنا بأن الميزانية المخصصة لنا تتقلص يوما بعد يوم، وحاولنا سلوك الطرق الإدارية، لكن دون جدوى، ولم يبق أمامنا سوى خوض إضراب عن الطعام.
ولعل القارئ الكريم يعرف تداعيات خوض إضراب عن الطعام داخل الثكنة العسكرية، إذ أن الانضباط والالتزام بالتعليمات أهم سمات الحياة العسكرية.
وصل الخبر إلى الجنرال الكتاني واستدعاني لكي يتبين مني سبب هذا «العصيان» الذي نخوضه نحن الشباب. وعندما رفعتُ إليه مشكلتنا، وأحطته علما بالظروف التي نجتاز فيها التدريب، وكنت دائما أبدأ الحديث معه بعبارة «مون جنرال»، رفع الموضوع رأسا إلى الملك الراحل محمد الخامس، وحُل المشكل وأصبحت ظروف إيوائنا جيدة، وقد قال لي رحمه الله وقتها: «الآن عرفتُ لماذا كنتم في جيش التحرير»، في إشارة إلى رفضنا الصمت عن الوضع.
كان رحمه الله يستدعيني إلى مكتبه كلما سمع أمرا ما عنا، حتى بعد انتهاء التدريب وتعييني في ثكنة سلا. وكان يقول: «أريد أن أسمع منك. قل لي ما وقع بالضبط»..
أخبرتُه مرة أنني أتوفر على معلومة مهمة مفادها أن بعض السياسيين، المعادين لقدماء المقاومة، يرسمون مخططا لجعل أشخاص داخل الحكومة، وكان الأمر وقتها يتعلق على ما أذكر بحكومة عبد الله إبراهيم (عينت من دجنبر 1958 إلى ماي 1960)، يضعون مخططا لطردنا، نحن القادمين من جيش التحرير، من الحياة العسكرية، ويعملون على جعل وزير الداخلية وقتها، الاستقلالي إدريس المْحمدي، يضع هذا المقترح.
ما أن أخبرتُ الجنرال بهذه المعلومة، حتى أعاد سؤالي إن كنت متأكدا مما أقول، فأجبتُه بأنني متيقن وأن مصادري اطلعت على الوثيقة في مكتب أحد السياسيين وأنني لا أستطيع كشف المزيد.
فما كان من الجنرال إلا أن حمل سماعة هاتفه، واتصل فورا بولي العهد، الأمير مولاي الحسن، الذي أمره أن يُبقيني في مكتبه.
وفعلا تدخل سمو الأمير مولاي الحسن، بعد ساعات قليلة، ووصل الخبر إلى جلالة الملك محمد الخامس، وتدخّل بشكل استباقي لوضع حد لهذا المخطط الذي كان الهدف منه تصفية حسابات سياسية مع قدماء المقاومين الملتحقين بالجيش الملكي.
كان الجنرال الكتاني مثالا في نظافة اليد والاستقامة. فالسنوات، التي قضيناها تحت قيادته، كانت كفيلة لكي تؤكد لنا معدنه وزُهده في الامتيازات والمناصب، في وقت كان البعض يتسابقون لحيازة النفوذ، ورأينا جميعا كيف وصل بهم الأمر إلى التخطيط للانقلاب على الملك الراحل الحسن الثاني مرتين.
كان الجنرال الكتاني يعتز بعلاقته مع الملك الراحل محمد الخامس، وثقة الملك الحسن الثاني بعد ذلك. وحتى عندما تقاعد عن الحياة العسكرية، كان وداعي له مؤثرا جدا ومن اللحظات التي لا أنساها في حياتي.. رحمه الله.
محمد الخامس والأمازيغية
خلال فترة التدريب دائما، رفع الجنرال «حبيبي» – أحد الذين تم إعدامهم بعد فشل محاولة الصخيرات الانقلابية في يوليوز1971 وكان في مرحلة تدريبنا في بنسليمان لا يحمل رتبة جنرال بعدُ- تقريرا إلى الملك الراحل محمد الخامس، يقول فيه إن بعض عناصر الجيش من المتدربين الجدد – يقصدنا نحن- ليسوا متعلمين كفاية، ولا يمكن تدريبهم بالفرنسية أو العربية، وأن بعضهم ينحدرون من مناطق يسود فيها اللسان الأمازيغي، وهناك صعوبات في التواصل معهم. فكان جواب الملك الراحل محمد الخامس أنه لا يمانع نهائيا أن يتم استعمال اللغة الأمازيغية أثناء تدريب هؤلاء العسكريين.
هكذا كان الملك الراحل محمد الخامس قد عطف على أغلبنا عندما أظهر عدم تحفظه على استعمال الأمازيغية في التدريب، في وقت تُحاك المحاولات لتقزيم حضور المقاومين وأعضاء جيش التحرير في المؤسسة العسكرية.
لم يُكتب لي أن أعيش لحظة وفاة الملك الراحل محمد الخامس يوم 21 فبراير سنة 1961. كنتُ وقتها قد اتجهت إلى فرنسا لخوض تدريب عسكري مهم، اجتمع فيه ضباط من مختلف دول العالم العربي، خصوصا من مصر ولبنان.
وخلال هذا التكوين وصل إلينا خبر وفاة الملك محمد الخامس، وكانت تلك واحدة من اللحظات العصيبة التي تمنيتُ فيها الدخول الفوري إلى المغرب لحضور مراسيم تشييع الجنازة.
معالم من الحياة العسكرية
أستدرك هنا لأقول إنني قبل السفر لخوض هذا التدريب ذهبتُ لوداع الأمير مولاي الحسن، رفقة الدكتور الخطيب، ولم أكن أعلم أنني أسلم عليه وقتها لآخر مرة باعتباره وليا للعهد. فبعد عودتي من مرحلة التدريب، أصبح الملك الحسن الثاني الذي اعتززتُ دائما بأنني اشتغلتُ تحت إمرته وليا للعهد وملكا.
خلال فترة التدريب في فرنسا، كنت قد تعرفتُ على بعض الشباب العسكريين، من بينهم الجزائري محمد العماري، الذي أصبح لاحقا أحد أهم جنرالات الجزائر في سنوات السبعينيات والثمانينيات.
فوجئت بكون العماري لا يزال يتذكرني، بل وسأل عني الجنرال أوفقير عندما زار هذا الأخير الجزائر سنة 1970 أثناء مفاوضات ترسيم الحدود الشرقية بين بلدينا.
ورغم أنني اشتغلتُ في سلا، إلا أن بعض المناسبات التي جمعتني بالملك الراحل الحسن الثاني، طيب الله ثراه، لمستُ فيها عطفا كبيرا منه. وكان يوم توشيحنا نحن مجموعة من العسكريين في إحدى مناسبات عيد العرش خلال تسعينيات القرن الماضي، آخر مرة أرى فيها جلالته.
الحياة العسكرية لم تسرق مني التزامي بالماضي الذي عشتُه بين أسرة المقاومين والسياسيين من قدماء حزب الاستقلال، حتى في اللحظات التي كان فيها هذا الحزب على خلاف مع السلطة. وكنتُ أزور الزعيم علال الفاسي كلما سنحت الفرصة، وأنا في الجيش الملكي. وهو ما تسبب في بعض الحساسيات.
حتى أن أحد أقرباء علال الفاسي كان يشتغل في الإدارة وسألني مرة عن سر وجود ملف ضخم عني في الإدارة. وعلمتُ أن السبب هو زياراتي العديدة لسي علال عندما كان مريضا بالمصحة بحسّان في الرباط.
وما زاد من «نفخ» الملف، حسب ما عرفتُ لاحقا، حضوري جنازة علال الفاسي رحمه الله، سنة 1974. فقد شاركتُ في تشييع جثمانه وذهبتُ إلى الجنازة ببذلتي العسكرية. وقلتُ لقريب سي علال إنني قضيتُ سنوات من النضال في حزب الاستقلال، وانضممتُ إلى المقاومة، وهذه المرحلة لا يمكنني الانسلاخ عنها، أو قطع الاتصال مع من كانوا فاعلين فيها. وارتأيتُ أن أختم بها هنا هذا الحديث عن محطات عشتُها طيلة هذه السنوات.
نافذة: أخبرتُ الجنرال الكتاني أنني أتوفر على معلومة مهمة مفادها أن بعض السياسيين، المعادين لقدماء المقاومة، يرسمون مخططا لجعل أشخاص داخل الحكومة يضعون مخططا لطردنا، نحن القادمين من جيش التحرير، من الحياة العسكرية، ويعملون على جعل وزير الداخلية وقتها، الاستقلالي إدريس المْحمدي، يضع هذا المقترح.
ما أن أخبرتُ الجنرال بهذه المعلومة، حتى أعاد سؤالي إن كنت متأكدا مما أقول، فأجبتُه بأنني متيقن وأن مصادري اطلعت على الوثيقة في مكتب أحد السياسيين وأنني لا أستطيع كشف المزيد.
فما كان من الجنرال إلا أن حمل سماعة هاتفه واتصل فورا بولي العهد، الأمير مولاي الحسن، الذي أمره أن يُبقيني في مكتبه