الرأي

منزل ابن خلدون «للبيع»

يونس جنوحي
كل الذين يعرفون العالم المغربي الكبير ابن خلدون، لا يتصورون أن يكون منزله بمدينة فاس لا يزال قائما. لكن قبل أن يستوعبوا أن منزله لا يزال موجودا فعلا، سوف يُصفعون عندما تخبرهم أن المنزل معروض للبيع هذه الأيام. إذ إن الأسرة التي تسكنه علقت يافطة تعلن فيها عن رغبتها في بيع المنزل.
سامحك الله يا ابن خلدون، إذ لو أنك وضعت منزلك قبل وفاتك سنة 1406 ميلادية، نعم أي قبل 615 سنة بالضبط، رهن إشارة «البخلاء»، أبطال مؤلفك الشهير، لربما ظل محفوظا ولما فكر أحد في بيعه.
ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، والمفكر الذي وصل إلى العالمية قبل ستة قرون، بل إنه من أوائل العلماء في العالم، الذين تُرجمت كتاباتهم بعد وفاتهم إلى الفرنسية والإنجليزية.
في كل جامعات العلوم الإنسانية في العالم كله، لا بد أن تجد أطروحات عن أفكار ابن خلدون وتأملاته وسيرته، ولا يمكن أن توجد مكتبة واحدة في مركز يعنى بالعلوم الإنسانية دون أن تجد فوق رفوفها دراسة أو تحقيقا في أطروحات ابن خلدون في علم الاجتماع.
وهناك إلى اليوم اختلاف كبير وتضارب في الروايات بخصوص أصوله. فهناك فريق يقول إنه أندلسي الأصل رغم أنه وُلد في تونس، ودليله أن أسرته كانت أندلسية وسكنت في تونس لبعض الوقت، حيث تلقى بها دراسته، قبل أن ينتقل إلى مصر، ومنها إلى المغرب حيث أقام في فاس وقضى بها فترة. وهناك من يقول إن أصل ابن خلدون مشرقي من قبائل العرب، لكنه سافر كثيرا، وحاول كل طرف أن ينسبه إلى نفسه. بل هناك تضارب في الروايات حتى بخصوص مكان وفاته وقصة دفنه.
لكن المؤكد هو الأصل الأندلسي لابن خلدون، إذ إن أغلب الذين كذبوا عليه ميتا، لم يقرؤوا ولا مؤلفا من مؤلفاته.
عاش ابن خلدون في فاس لفترة، واتخذ فيها بيتا، تحول مع الزمن إلى رياض للإقامة، حيث كان مخصصا في فترات من التاريخ لإحياء ذكراه، قبل أن يصبح إقامة لبعض العائلات، خصوصا وأن المنزل كان مبنيا على طراز المنازل الفاسية التقليدية المعروفة.
وهذا ما يعني أن نسبة المنزل إلى ابن خلدون لم تكن أسطورية، بل هناك مخطوطات في جامع القرويين، ومنها دراسة كان قد اهتم بها المؤرخ المغربي الكبير عبد الهادي التازي، تؤكد وتحدد بدقة المنزل الذي كان يقطن به ابن خلدون عندما عاش في مدينة فاس. أي إن مسألة تحديد المنزل لا يعلوها غبار.
الغبار الوحيد الذي بات يغطي المنزل الآن هو غبار الزمن والإهمال، الذي جعل العائلة التي تقطن في المنزل تقرر عرضه للبيع، كما لو أنه منزل عادي.
خبر مثل هذا، لا بد وأن ينتشر حول العالم، لأن شخصية ابن خلدون وصلت بدون مبالغة إلى العالمية. إذ لا يوجد متخصص في علم الاجتماع حول العالم لا يعرف كتاب «المقدمة»، ولا يدرك أهمية ابن خلدون في التأصيل لهذا العلم، وذكر خصائص الشعوب وتحليل عاداتها الاجتماعية. ووقتها، أي عندما يشيع الخبر، سوف نكون مطالبين بتفسير كيف وصل منزل ابن خلدون أصلا إلى الذين يريدون بيعه.
إذ الأسلم أن يكون هذا المنزل أساسا في ملكية وزارة الثقافة، أو مؤسسة تحمل اسم ابن خلدون وتفتح المنزل معرضا لإحياء ذكرى هذا العالم الكبير، وعرض مخطوطات أصلية لكتاباته التي قام بتأليفها في فاس، قبل أن يرحل عنها.
لو أن ابن خلدون توفي في الأندلس، لكان منزله اليوم معرضا يدفع السياح من كل أنحاء العالم مبلغا قبل دخوله، لرؤية مخطوطاته وأرجاء المنزل الذي قضى به ذكريات من حياته. وربما استطعتم القيام بجولة افتراضية في المنزل دون أن تغادروا منازلكم، بتقنية ثلاثية الأبعاد. لكن المؤسف أن ابن خلدون ترك وراءه منزلا بفاس، حيث يشكل خبر عرضه للبيع بعد كل هذه القرون، ما يشبه إفراغ سطل ماء مثلج فوق الرأس. وربما تكون الكارثة أكبر، عندما يكون هذا «الماء المثلج» قد صُب فوق جسد غائب عن الوعي. وقتها لن يُحرك أحد ساكنا، وسوف يباع منزل ابن خلدون كما لو أنه حمام للورثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى