
يونس جنوحي
واقعة قرية با محمد
في ذلك الجو المشحون، الذي خيم على البلاد بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى والتمهيد لتوقيع الاستقلال رسميا، ساد التوتر في ما يتعلق بموقع جيش التحرير المغربي من الأحداث. وفي هذا السياق المشحون جاءت واقعة «قرية با محمد».
كان حسن اليعقوبي، الذي كان معنا في تطوان، مسؤولا عن جيش التحرير، وأصبح بعد هذه الأحداث ضابطا في الجيش الملكي وترقى عسكريا. وكان نائبه المقاوم محمد بوشرطة.
وبينما كانا هناك يزاولان مهامهما في جيش التحرير، وقع هجوم فرنسي على المنطقة استهدف مقر جيش التحرير. والعسكري الفرنسي المسؤول اسمه الجنرال كلير وكان يشتغل في ناحية فاس.
والحقيقة أن الإخوان في جيش التحرير، في المنطقة التي يشرف عليها المقاوم حسن اليعقوبي، كانوا على مستوى عال من اللياقة البدنية والجاهزية للقتال، وأبدوا مقاومة مستميتة أمام الجنود الفرنسيين.
وعندما توقف الهجوم، كانت الحصيلة أن جيش التحرير هناك اعتقل ستة جنود أفارقة، أعتقد أنهم كانوا ينحدرون من السنغال، أو دولة إفريقية أخرى من الدول التي استعانت فرنسا بمقاتليها في شمال إفريقيا، كانوا يقاتلون في صفوف الجيش الفرنسي وشاركوا في الهجوم.
احتج الفرنسيون عند الملك الراحل محمد الخامس، في القصر الملكي بالرباط، وزعموا أن وحدة للجيش الفرنسي تعرضت لهجوم على يد مقاتلي جيش التحرير وأسروا بعض الجنود.
في تلك الأثناء كنتُ بمعية الدكتور الخطيب، في الأستوديو الذي وضعه المحجوبي أحرضان، عامل مدينة فاس حينها، رهن إشارتنا في الرباط. جاء اتصال هاتفي من القصر الملكي، يطلب من الدكتور الخطيب الالتحاق فورا بالقصر، دون أن نعلم ما يقع. إذ لم نكن لحظتها نعلم أي شيء بخصوص شكاية الفرنسيين عند جلالة الملك. وفعلا ذهب الدكتور الخطيب إلى القصر وأخبره الملك الراحل محمد الخامس بالأخبار التي وصلت إليه، واستفسره عنها، وأمره جلالته رحمه الله بأن يتبين ما وقع، لحل المشكل وإطلاق سراح الأسرى.
حكى لي الدكتور الخطيب، لاحقا، أنه شرح للملك أن الأمر يتعلق بمكيدة فرنسية وأن الفرنسيين هم الذين شنوا هجوما عسكريا على مقر جيش التحرير في قرية با محمد، وهم الذين بدؤوا إطلاق النار.
عندما عاد الدكتور الخطيب إلى دار أحرضان، قال لي إنه يتعين علينا، أنا وهو، أن ننتقل فورا إلى قرية با محمد لتبين ما وقع، واقترح عليّ أن آخذ معي آلة التصوير وآلة للتسجيل. ووقع لي أمر لم أفهمه، فقد اكتشفتُ أن آلة التصوير التي كانت بحوزتي لا تعمل. حاولت إصلاحها، لكن بدون جدوى، ورغم ذلك أصر الدكتور الخطيب على أن نحملها معنا.
وطبعا كان المغزى من توثيق ما سنجده في قرية با محمد، عرض الصور والتسجيل الصوتي للأسرى، على جلالة الملك محمد الخامس، لتبيّن حقيقة ما وقع على الميدان، بعيدا عن تضليل الفرنسيين وادعائهم، ولتأكيد أن الفرنسيين هم الذين هاجموا جيش التحرير أولا.
وصلنا إلى قرية با محمد واطلعنا على الوضع عند الإخوان في جيش التحرير، وتسلمنا الأسرى فورا لننقلهم خارج موقع جيش التحرير. وأذكر أن الدكتور الخطيب خاطب هؤلاء الأسرى قائلا: «إذا تحركتم ستموتون». وفعلا قالوا لنا إنهم لن يأتوا بأي حركة. وجيء بجلابيب ليلبسوها تمويها لنقاط التفتيش الفرنسية، وأركبناهم في السيارة التي كانت من الحجم الكبير.
في طريق العودة من قرية با محمد، كنا نصادف فرقا عسكرية فرنسية تقيم دوريات ونقط تفتيش، والحمد لله أننا اجتزناها جميعها بدون مشاكل، ولم توقفنا أي دورية.. ولو أنهم أوقفونا لربما تطورت الأمور إلى الأسوأ، إذ كانوا ليجدوا الجنود الأسرى عندنا في مؤخرة السيارة.
فاتني أن أشير إلى أن هذه الأحداث وقعت في شهر رمضان، وكان عناء الرحلة شديدا ونحن صيام.
وأثناء هذه الرحلة وقع موقف لن أنساه ما حييت. وهذا الموقف يوضح معدن الدكتور الخطيب، وغيرته وجانبا من شخصيته المُحافظة.
مشاهد على الطريق
كنا نسير في الطريق في اتجاه الرباط عائدين من قرية با محمد. ونحن على تلك الحال، رأينا شاحنة تابعة لشركة لنقل الخمور، متوقفة على قارعة الطريق، وبجوارها بعض العمال -كانوا مغاربة- يُنزلون صناديق قنينات الجُعة من الشاحنة إلى أحد المخازن. ولم أشعر إلا والدكتور الخطيب يوقف السيارة بشكل مفاجئ، ويفتح الباب ويقفز مسرعا نحو العمال. ولم أصدق عينيّ وأنا أراه ينتزع الصناديق من بين أيديهم ويرميها فوق الطريق المعبدة. ولم يكتف بهذا الأمر، بل حاول تسلق الشاحنة وبدأ يسحب الصناديق المحملة بالقنينات، ويسحبها نحو الأسفل، لتنكسر. وسرعان ما تشكّل جدول من الخمور يسيل على الطريق. كل هذا والدكتور الخطيب يصيح في وجه أولئك العمال الذين بقوا تحت تأثير الصدمة، ويُذكرهم بتحريم شرب الخمر.
كنت أتوقع أن يهاجموه أو ينقضوا عليه لمنعه من تحطيم المزيد من الصناديق، ونزلتُ من السيارة لأتدخل.. لكنهم في الحقيقة لم يفعلوا، بل وقفوا متفرجين.
عاد الدكتور الخطيب إلى داخل السيارة، وكان يتصبب عرقا، ومنفعلا وفي غاية التأثر. والذين يعرفون الدكتور الخطيب، رحمه الله، عن قرب، يعرفون جيدا شخصيته المحافظة منذ ذلك الوقت.
عندما حان وقت الإفطار، توقفنا في الخميسات، عند المقاوم محمد بن الميلودي، وكان من أعضاء جيش التحرير، وتركنا أولئك الأسرى عنده، بعد التأكيد طبعا على ضرورة الحفاظ على سلامتهم في انتظار تسليمهم.
وواصلنا طريقنا إلى الرباط أنا والدكتور عبد الكريم الخطيب، ووصلنا إليها ليلا في وقت متأخر. وأذكر أننا تناولنا وجبة السّحور مع أحرضان. وفي الصباح فهمت أن الاتفاق كان ينص على أن يُسلم الجنود الأسرى في النقطة التي تركناهم فيها، لكي يتكلف وزير الداخلية، وكان وقتها الوزير هو الاستقلالي ادريس المحمدي، بتسليمهم.
وما وقع أن هؤلاء الأسرى عُرضوا فعلا على الملك الراحل محمد الخامس، وتحدث معهم، ومن المفارقات الغريبة أن الأسرى قالوا للملك إننا مُستعمرون من طرف الفرنسيين وطلبوا من جلالة الملك محمد الخامس أن يتدخل وينقل إلى الفرنسيين رغبة بلادهم في الاستقلال.
الإفراج عن هؤلاء الأسرى أعاد بعض الهدوء إلى الأجواء، وظل الترقب سائدا بخصوص الخطوة المقبلة التي سيتخذها الفرنسيون.
كانت نقاط جيش التحرير في الشمال تعرف بعض التوتر، بخصوص علاقة قيادة الجيش، مع التطورات السياسية التي تعرفها البلاد. وعندما كنت أرافق ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، كنت ألمس هذا الأمر دائما. فقد كنت، في بعض الأحيان، أرافقه في إطار مهام التنسيق مع جيش التحرير أو الحديث مع المقاومين، ونجد عند بوابة إقامته بعض المقاومين ينتظرون خروجه، وكانوا ينقلون إليه طلباتهم، وكان يُلبيها.
ومن الجهة الأخرى، كان هناك صراع بين السياسيين، وبعض أعضاء جيش التحرير. وهذا الصراع، كما يعلم الجميع، استمر حتى بعد الاستقلال.. وسوف آتي إلى بعض التفاصيل المرتبطة به، كما عشتها، عند الحديث عن المهدي بن بركة أو عبد الله إبراهيم.
في إطار المهام التي كلفني بها ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، كنت أتنقل إلى بعض نقاط جيش التحرير، وعُدت أيضا إلى تطوان، في هذا السياق، في إطار مهمة كلفني بها، لصالح محمد بوضياف، وكان في ذلك الوقت من زعماء الثورة الجزائرية البارزين ويوجد في تطوان، وكانت لدي به معرفة.
هذه الواقعة كانت وراء التحاقي بالجيش الملكي، حيث حرص الأمير مولاي الحسن على أن ألبس البذلة العسكرية وأبقى برفقته.
نافذة: وصلنا إلى قرية با محمد، واطلعنا على الوضع عند الإخوان في جيش التحرير وتسلمنا الأسرى فورا لكي ننقلهم خارج موقع جيش التحرير. وأذكر أن الدكتور الخطيب خاطب هؤلاء الأسرى قائلا: «إذا تحركتم ستموتون». وفعلا قالوا لنا إنهم لن يأتوا بأي حركة. وجيء بجلابيب ليلبسوها تمويها لنقاط التفتيش الفرنسية، وأركبناهم في السيارة التي كانت من الحجم الكبير