أولاد خدام الدولة..ابن الوزير بلافريج يبحر ضد التيار فيستقيل والده من السياسة
أولاد خدام الدولة.. أبناء لا يعيشون في جلابيب آبائهم

ولد أحمد بلافريج في مدينة الرباط سنة 1908، وسط أسرة ذات أصول موريسكية، وتابع دراسته الابتدائية بمدرسة الأعيان بباب لعلو بالعاصمة، وأكمل دروسه الثانوية الإسلامية التي سميت في ما بعد بثانوية مولاي يوسف، بدعم من خاله جسوس، بعد أن توفي الوالد، قبل أن ينال ابنه أحمد شهادة الباكالوريا، التي رحل من أجلها إلى فرنسا، وهو ما حصل حيث نال «الباك»، وأصبح رئيسا لجمعية مسلمي شمال إفريقيا.
التحق أحمد بجامعة الملك فؤاد الأول بمصر التي درس فيها الأدب العربي، قبل أن يعود من جديد إلى فرنسا ويلتحق بجامعة السوربون، التي حصل فيها على الإجازة في الآداب وفي العلوم السياسية. وحين أنهى حياته الجامعية انضم إلى أوائل المتشبعين بالوعي النضالي ضد المستعمر الفرنسي، وكان أول من أطلق اسم الاستقلال على حزب علال الفاسي وأصبح أول أمين عام له، بل وكان مهندس فكرة وثيقة الاستقلال سنة 1944. ما عرضه للنفي في جزيرة كورسيكا في العام نفسه.
عين الملك محمد الخامس أحمد بلافريج وزيرا للخارجية، مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، كما تقلد رئاسة الحكومة. ونظرا إلى التجربة التي راكمها بلافريج على رأس الدبلوماسية المغربية، فقد اقتضى نظر الملك أن الشخص المؤهل والمناسب في تلك المرحلة، لقيادة هذا الجهاز الفتي ليس سوى مؤسسه بلافريج، حيث واصل جهوده في هذا المجال إلى سنة 1963، ليغادر المجال الدبلوماسي كمسؤول حكومي، لكنه ظل يمارسه كممثل شخصي للملك، وهو المنصب الذي شغله لعقد كامل، قبل أن يغادره في السبعينيات، بسبب المرض.
قال عنه الحسن الثاني: «إذا استحق أحد أبناء هذا الشعب التكريم والتنويه فإن اسم الحاج أحمد بلافريج رحمه الله وأثابه، يأتي عاليا على رأس قائمة المكرمين، فقد عرفنا هذا الرجل العصامي منذ نعومة أظافرنا، عرفناه فأحببناه، وبادلنا هو حبا بحب أكبر، ووفاء بوفاء أعظم».
طبيبات ومعارض سياسي في بيت بلافريج
تزوج أحمد بلافريج من فطوم بناني، ابنة المناضل الوطني الجيلالي بناني، والد محمد بناني، وكلاهما كانا من الموقعين على وثيقة الاستقلال عام 1944. وقد أنجب منها خمسة أبناء وأربع بنات: سعاد وليلى ومية وأمينة، والثلاث الأخيرات ابتعدن عن مربع السياسة واخترن الطب، ومن أجله سافرن إلى فرنسا لاستكمال دراستهن، ثم تخرجن كطبيبات في اختصاصات متنوعة، ومنهن من تتحمل مسؤوليات في قطاع الصحة، كما أنجب أحمد ولدا واحدا أطلق عليه اسم أنيس، وهو مهندس دولة خلافا لشقيقاته.
في أيامه الأخيرة، ظهر تصدع في علاقة أحمد بلافريج مع القصر، بعدما انتقل الابن أنيس إلى صف المعارضة، حيث عاش رهن الاعتقال مدة طويلة دون أن يتدخل والده أحمد لدى الملك، بل اكتفى بالاستقالة من منصبه الحكومي.
حاول عدد من المسؤولين الحكوميين إقناعه بتقديم ملتمس إلى الملك الحسن الثاني لما تربطهما ومن وشائج قديمة، أو فتح نقاش معه حول الابن أنيس، إلا أن أحمد رفض، وقال عبارته: «دعوني أتصدى للمرض الذي توغل في جسدي». ابتعد أحمد عن السياسة واعتكف في مكتبته، إلى أن لقي ربه سنة 1990.
«إلى الأمام».. في بيت زعيم استقلالي
انضم أنيس بلافريج إلى منظمة «إلى الأمام»، التي شكلت قلقا حقيقيا للملك الراحل الحسن الثاني، ودخل في عصيان متواصل وصل حد الإضراب عن الطعام، احتجاجا على تعسف السلطة في تلك الفترة، علما أن والده يعد من اللبنات الأولى للنظام وأحد أبرز قياديي حزب الاستقلال المؤثر في القرار السياسي.
خلال هذه الفترة، التي سميت بسنوات الرصاص، سيتم اعتقال المجموعة التي ينتمي إليها أنيس (مجموعة 44)، وكان لها طابع شبكي وتضم شبابا من أحياء هامشية، خاصة أحياء الصفيح في الدار البيضاء. في ليلة 2 مارس 1972، كانت الاحتفالات بذكرى عيد العرش تعم الدار البيضاء وباقي المدن، فقام فصيل «إلى الأمام» بإحراق أقواس النصر التي زينت شوارع المدينة، فشنت السلطات الأمنية حملة واسعة أدت إلى اعتقال أنيس بلافريج ومجموعة من رفاق دربه، لكن الاعتقال لم يتوقف عند الاستنطاق في مخافر الأمن، أو الإحالة على سجون المملكة، بل تحول إلى إقامة طويلة في معتقل درب مولاي الشريف المرعب.
بلافريج يزور ابنه في المعتقل
اعتقل الشاب، الذي تشبع بالفكر الماركسي وأصبح متيما بمواقف أبراهام السرفاتي، رافضا لمبادئ حزب والده الاستقلالي، بل إن أنيس تحول إلى معارض حقيقي للنظام وللأحزاب التقليدية، رفيقا لدرب سعيدة المنبهي وفئة واسعة من المتشبعين بالمد الشيوعي القادم من شرق أوروبا. وبسبب هذا الانتماء تعرض للتعذيب في مخافر الشرطة، مما أغضب والده الذي كان يزوره في المعتقل، دون أن يلتمس من الملك إطلاق سراح فلذة كبده، إلى أن صدر عفو ملكي في حق ما تبقى من المجموعة 44، والتي كانت تضم في صفوفها أنيس بلافريج.
شكل انتماء أنيس إلى منظمة يسارية متطرفة كانت تؤمن بتغيير الحكم عن طريق استعمال العنف، استثناء. إذ نادرا ما يخرج ابن مسؤول حكومي عن سكة والد يصر على أن يضع أبناءه في السكة نفسها.
وبما أن الولد مهندس دولة، فقد اتهمته محاضر الأمن بتصنيع قنابل «مولوتوف»، بقصد استعمالها في أعمال تخريبية، ما أدى إلى استنطاقه لساعات طويلة، وهو ما كان له تأثيره السلبي الصحي والمعنوي على والده، الذي كرس حياته لخدمة النظام الذي أصبح ولده يناهضه. وكانت تلك هي الصدمة التي قصمت ظهر بلافريج، حيث أصيب بمرض أقعده وبقي على إثره طريح الفراش، إلى أن فارق الحياة في هدوء.
تقاسم أنيس الهم السياسي مع ابن عمه عمر بلافريج، البرلماني السابق، الذي كان في فترة من الفترات رئيسا لمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، وعضوا مؤسسا في حركة: «وضوح.. طموح.. شجاعة»، والذي له بدوره روابط عائلية مع عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازغي. كما تقاسم أنيس وعمر الدعم والمساندة لحركة عشرين فبراير، وكانا من الداعين إلى تجديد الزعامات السياسية في المغرب.





