الرأي

التأسيس المنهجي للعقل

كلما كتبت في هذا الموضوع أشعر أنه لابد من توضيحه المرة بعد الأخرى من أجل نقل العقل المسلم إلى فضاء المعاصرة والعودة لخط الحضارة الذي خرجنا منه منذ أيام ابن خلدون. وأمام موضة الإعجاز العلمي لابد من التأسيس المنهجي للعقل الإسلامي الحديث، فقد راجت هذه الموضة حتى بارت. ومن حمل رايتها لم يتقدم كثيرا. وعلى الرغم من النشاط المحموم للجان الإعجاز العلمي في اللقاءات والمؤتمرات، فلم تصل إلى فتح علمي يتيم، إلا من همهمة وموافقة اللجنة، على اكتشاف علمي قام به كافر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر..
هذه الموضة، وهذا الاتجاه برمته، خطأ وخطر من ثلاثة مداخل؛ شهادتنا ممن لا شهادة له من الكفار والملحدين ـ حسب وجهة نظرناـ وإعلان غير مباشر لإفلاس علمي في مؤسساتنا بعدم إفادتنا بالخبر اليقين عن تحقيق أي فتح علمي في جبهة من جبهات العلم، إلا التكرار العقيم والنقل السقيم. وقبل كل شيء، فإن مهمة القرآن هداية وموعظة وليست دليلا من الفيزياء والكيمياء.
نعم مازلنا نرزح في الظل والضلالة مع كل النصوص، و(فيزو) بكشف سرعة الضوء و(آينشتاين) بالنسبيتين، وأفوغادرو بالرقم الجزيئي والتفاعل، و(لافوازييه) مكتشف الأكسجين ومحطم أسطورة الفلوجستون، و(مندل) أبو قوانين الوراثة، و(مندلييف) عبقري سلم العناصر المعدنية.. كلهم وصلوا إلى محيطات شاسعة من العلم الرباني بدون نص واحد من كتاب مقدس إلا قدسية العقل والعلم، ذلك أن الكون كله آية، «وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم»..
أعرف أن هذا البحث مزعج وحساس، وقد يثير غضب البعض، ولكن لابأس من إنارة للوعي؛ فليس مثل الوعي نورا، وعلينا أن نقول كلاما يوقظ النائم، ويزعج المستيقظ ويقلق المتشدد، ويطرب أولي الألباب.
كيف نحدد موقفنا في قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وموجة تحميل الآيات الى كل كشف علمي جديد؟
أعجبني ما قاله الطبيب (محمد كامل حسين) من أنها: بدعة حمقاء، وتفاءل كثيراً بعد مقالته أن يكون قد وأد هذه البدعة، ولكن البدعة أطلت بقرنين ولجان الإعجاز العلمي في كل مكان يزعقون مع كل فتح علمي بأن هذا سبق به القرآن، وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم.
ويعجبني ما كتبه المفكر الجزائري (مالك بن نبي) عن الفرق بين ما يبحثه القرآن، وما يعمل عليه العلم، فالقرآن وظف نفسه ليس للبحث في القضايا العلمية من فيزياء نووية وكوسمولوجيا (علم فلك) وأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، بل كان اهتمامه مصبوباً على إيجاد المناخ العقلي الذي يوفر الجو لنمو كل العلوم بشكل تراكمي سليم.
ويعجبني ثالثاً (الصادق النيهوم) حينما اعتبر القرآن أعظم كتاب بحث مشكلة تحرير الإنسان من خلال مفهوم التوحيد، أكثر من أي كتاب آخر.
أما تدشين اتجاه كامل عن الإعجاز العلمي، والركض خلف العلوم والآيات وأيدينا مشرعة نصيح: لقد سبقتكم الآية بالكشف.. إنها موجودة في القرآن؟.. يحمل مجموعة من الأخطاء القاتلة تنتهي مع الانحراف عن كل رسالة القرآن، فليس أضر على قضية رابحة مثل الدفاع عنها بمحامي خايب. والمحامون الخائبون في العالم العربي أكثر من رمل عالج في اليمن كما رأينا في بنت القذافي ومعها المئات في الدفاع عن الطاغية صدام؟
كما أن اللعب بالألفاظ للوصول إلى الحقائق، كما هو في كتابات الشحرور الشامي، لاتزيد عن شعوذة جديدة وكيمياء مزورة، فنخرج أرانب بيضاء من قبعات سوداء، كما فعل في تحويل الأنبياء إلى قوادين ـ عفوا من التعبيرـ فابن نوح لم يكن ابنه بل ابن زنا، وذلك في اللعب بكلمة ابن وولد؟ أو أن عبارة يضربن بأرجلهن تعني (الستربتيز= التعري) تجعلنا نحك رؤوسنا عجبا، ولكن مع ذلك وصف الله الشعراء بأنهم في كل واد يهيمون.
يقوم الفكر التقليدي والتراث كله على فهم أن المعجزة كسر للقانون واختراق للسنة؛ فحتى تثبت القدرة الإلهية يجب بناء الفوضى، ولكن لا يوجد خلف القانون إلا اللا قانون.
وحين نرى قدرة الله لا تظهر إلا بقدر خرق قوانين الطبيعة، وأن أقوى برهان على وجود الله زعزعة الثقة في نظام الطبيعة، هو جهل بالله وبالطبيعة وبالقانون على حد سواء، على حد تعبير فيلسوف التنوير الهولندي سبينوزا.
لقد ثبت فشل أسلوب المعجزة في التاريخ؛ فلم يؤمن فرعون مع تسع آيات بينات، وبقدر غزارة خوارق المسيح، قفز مسلسل البطش بالمسيح إلى حافة المصلبة، كما راهن عليه الأنبياء الكذبة ومازالوا، والمسيح الدجال سوف يقوم بحملة معجزات تؤكد كذبه إلى درجة إحياء الأموات.
وما سميت «المعجزة» انتظمت وفق قانونها الخاص الذي نجهله، لم يخرق فيه القانون أو يدشن الاستثناء، ولم يزد عن حدوث ظاهرة خاضعة لسنة الله في خلقه، مجهولة الكيفية لعقولنا، بسبب غموض قانونها أمام وعينا وقصور علمنا وقتها؛ فالله أجرى الوجود وفق سنته التي لا تتحول ولا تتبدل. هكذا قال القرآن سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون.
لو عرض اليوم الفاكس معكوساً ألف سنة إلى الخلف لاعتبروه خارقياً معجزاً، ولو استخدم التلفون أو الكمبيوتر زمن البعثة لكان معجزة لا ذرة للتردد فيها!
المعجزة تعتمد الخلاب والخوارقية، والقرآن حرَّم على نفسه هذا الاتجاه، في اتجاه بناء عقل منهجي سنني، فلم يستجب لطلبات المشركين الصبيانية، بطلب لائحة من المعجزات، تتراوح من فتح بئر ماء ارتوازي في الأرض، وبستان تفاح وعنب، وفيلا أنيقة، والعثور على كنز روماني في الأرض، الى إحضار الله شخصياً مع الملائكة فيما يشبه الاستعراض العسكري.
جاء في سورة «الإسراء» هذه القائمة من الطلبات التعجيزية السبعة؟
«وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (1) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب (2) فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (3) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا (4) أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (5) أو يكون لك بيت من زخرف (5) أو ترقى في السماء (6) ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه (7)؟ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ؟»
ماهي الطلبات باختصار؟ إنها ليست كمبيوتر «لاب توب»؟ ليست أنترنت متطور؟ ليست ماكينات صرف مالية في كل العالم؟ ليست علم النانو، والفيمتو ثانية، والانفجار العظيم، والميتوكوندريا في الخلية، والحامض النووي في ثلاثة مليارات حرف، وتصنيع الجينات في معهد جيني أرت (Geneart) في ريجنسبورج في ألمانيا، ومزج الجينات بسلطة فواكه من البكتريا والنباتات والحيوانات..
ليست كل هذا بل بئر ارتوازي.. بستان من الفاكهة.. بيت متحفي.. الطيران في الفضاء. هبوط نيازك.. ولكن أوقحها في قلة العقل حضور الله شخصيا مع الملائكة في استعراض عسكري، والعين البشرية تحترق بوهج بضعة آلاف شمعة، والسمع ينطفيء مع 200 ديسبل.. مع بعض مكبرات الصوت في أماكن في العالم الإسلامي، فإذا أذن المؤذن نفخ في الصور.
لقد طلب موسى رؤية الله، وهو جهل منه بقدر العين في استيعاب الأشعة الكونية ومقدار الشمعات، فخر صعقا، وحين نريد رؤية الفيروس لابد من المجهر الإلكتروني، وحين نريد رؤية الذرة لابد من البروتوني، ولكن هناك حواف حدية تتهاوى عندها قوانين الفيزياء والبيولوجيا.
«إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأن الإنسان، لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو.
إن إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، ومناشدة القرآن للعقل وللتجربة على الدوام، وإصراره على أن النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية، كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة».
هذا ماقاله إقبال، أما نحن فمازلنا نتناقش في مناطق من العالم العربي، حول هدم الكعبة لمنع الاختلاط، وجواز إرضاع المراهق، وهل يسمح للمرأة بقيادة السيارة؟ والتصفيق والزعيق والبعيق للقائد الديكتاتور أن يطيل عمره في مناسبة وغير مناسبة راكبا على ظهور العباد إلى يوم الدين.. اللهم آمين أمين!!
سئل أردني: لماذا أنت مكشر؟ أجاب: قهوتنا مرة وطبختنا مقلوبة، وبحرنا ميت وخليجنا عقبة، ومغنينا مهاوش وأغنيتنا ياويلك ياللي عادينا ياويلك ويل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى