شوف تشوف

الرأيثقافة وفن

النسخ الإسلامية

 

بقلم: خالص جلبي

 

في الأرض اليوم من يدعي تمثيل الإسلام (الحقيقي) وأن نسخته هي الأصلية كما أرادها الله تماما بدون تحريف أو تبديل، وأنه وصل إلى الحقيقة الحقيقية النهائية، وأن شكله بشري ولسانه إلهي، وأنه الممثل الشرعي الوحيد لله على الأرض. وأن مهمته ليست الحوار، بل أن يتلقى منه الناس الحقائق اليقينية. وباستعراض النماذج المتناثرة بين أيدينا، يظهر طيف لانهاية له من الألوان عبر الجغرافيا والتاريخ، يدعي معظمها هذا الادعاء. فهناك حذاء جبال الهندوكوش نموذجان متباينان بين جماعة «طالبان» في أفغانستان، وجماعة «الدعوة والتبليغ» في الهند وباكستان. وفي أفغانستان نرى مرة أخرى التحام نموذج طالبان مع الحركة الوهابية السلفية والإخوانية القطبية، بين «بن لادن والظواهري». ومع أن «الوهابي السلفي» ومن هو من «جماعة الدعوة والتبليغ» يستقيان من المصادر نفسها من «الكتاب والسنة»، ولكن الأولى رأت الحل في الحرب والضرب ومفاهيم الولاء والبراء. ورأت الثانية أن الإصلاح الأخلاقي مقدم على كل علاج، كمن هو مصاب بفقر الدم فنعالجه بالماء. وفي يوم حاول «حسن البنا»، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، أن يجمع كل الصفات في تنظيمه، فوصف حركته بأنها «دعوة سلفية وطريقة صوفية وجماعة رياضية وهيئة سياسية وشركة اقتصادية»، ولكن السياسة استهوتها فتورطت في العنف واصطرعت مع عبد الناصر، وأنهى أفرادها حياتهم بين حبل المشنقة والمعتقلات الصحراوية والهرب إلى أوروبا والخليج، كما رأينا في إمبراطورية القرضاوي، حين نشر فكر الإخوانية من منبر «الجزيرة»، من قطر في كل قطر.

وفي تركيا نمت يوما الحركة الصوفية «البكتاشية»، ومن عمودها الفقري نشأت الإنكشارية حتى تحولت إلى مرض ينخر كيان السلطنة العثمانية، فنحرهم السلطان «محمود الثاني»، فلم يبق منهم أحدا.

وعندما وصل الإسلام إلى الفرس تبنوا معارضة آل البيت، فلبسوا عباءة الحسين وبدأ اللطم بالسواطير والسلاسل. وهكذا نمت الحركة الشيعية بسبب يرجع إلى الفرس أكثر من الإسلام، وأفرزت النموذج الإيراني من الإسلام، وهو أمر ينمو في عالم اللاوعي ولا علاقة له بالفهم والوعي، كما يعرف ذلك علم النفس أن عالم اللاوعي يمثل 95 في المائة من كياننا؛ فهي آليات نفسية وتاريخية، ولكن فهمها أصعب من قص الأنف بالمنشار بدون تخدير.

وفي يوم أعجب ناشر في الأردن بطرحي لمشكلة اللاعنف وتفكيك مفهوم الجهاد في الإسلام، فوعدني بنشر ما كتبت، فلما أرسلت إليه كتابي، رفض النشر قائلا: صحيح أنك استخدمت الآية والحديث، ولكن ليس على منهاج أهل السنة والجماعة. وهنا اكتشفت مرجعا أقوى من القرآن والسنة، اسمه «منهج أهل السنة والجماعة».

وفي يوم انتبه «ابن تيمية» إلى هذه المشكلة، فقال إن كل إنسان عنده قرآن وسنة خاصة به، وهذا هو سر نمو الملل وانتشار النحل. وابن تيمية نفسه وقع في المطب ذاته، فأباح القتل والحبس للمخالف فانتهت حياته في الحبس، في سجن القلعة بدمشق، وهو سجن أعرفه وزرته ولم أحبس فيه؛ لأن فروع المخابرات كانت خلفي وسجونها قبور لمخالفي الرأي، ويبقى سجن القلعة روح وريحان مقابل فروع المخابرات البعثية العبثية.

وحدثتني سيدة فاضلة بقانون نفسي، فقالت: «لفت نظري أنه لا يوجد أي قول مهما بلغ من السخف والضعف، إلا واجتمع حوله عدد من الأناس قلوا أم كثروا.

وفي الوقت الذي لم تتحمل «الوهابية السلفية» سلفية أخرى منافسة لها هي سلفية «ناصر الدين الألباني»، التجأ صاحبها إلى الأردن، ومعه انتشر الجلباب والنقاب، ودارت المعركة السياسية حول جسد المرأة.

وحيث تشتد «السلفية» تنمو معها ثلاثة مظاهر: التشدد والحرفية وطقوس الشكلية وقتل القرآن بالحديث المشبوه، كما في حديث قتل المرتد. فتدور المفاهيم حول تقصير الثوب، وطول اللحية، والسواك، ولون الجلباب، وحركة اليدين في الصلاة. وهو ما يذكر بالكتبة الذين حاربوا عيسى عليه السلام، حينما نهوه عن وعظ الناس يوم السبت، لأنه يوم عطلة، فقال لهم: لو أن خروفا لأحدكم سقط في حفرة يوم السبت، ألا يمد أحدكم يده لانتشاله؟ قالوا: بلى. قال: أفليس الإنسان أهم من خروف؟ ولكن قلب هذا الشعب قد غلظ فهم لا يفقهون.

واليوم يتم تصدير السلفية إلى أركان المعمورة الأربعة على أجنحة البترو دولار، وهو ما سماه الغزالي «بدونة الإسلام». وهو ليس عيبا في البدو أو انتقاصا من الإسلام، وإنما هو موضوع أنثروبولوجي.

وعندما يذكر الحديث طبيعة الناس، يصفهم بأنهم مثل «معادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»، فهو يشير إلى أن تمثل وامتصاص الإسلام يختلف إفرازه وممارسته بين شخص فعال وآخر كسول، وبين أمة صناعية وأخرى بدوية. فلا يستويان مثلا.

وحينما يعتنق اليابانيون أو النرويجيون الإسلام، فلن تكون نسخته كما لو اعتنقه أهل البينين وبوركينا فاسو في إفريقيا، أو الإكوادور في أمريكا الجنوبية، فلكل أمة مظهر وتجل خاص بها.

وسيارة «المرسيدس» المستعملة بيد ألمانية لسنوات تبقى كأنها جديدة، في حين تصبح السيارة الجديدة في يد المواطن الخليجي بعد سنوات أنقاضا.

وتعرض لهذه المسألة الحضارية «علي شريعتي» يوما، فقال: إن الجهاز الذي في يدنا نكسره في الأشهر الأولى من استعماله، ثم نستعمله سنوات وهو يعرج في وظيفته. أما الإنسان الغربي فيستخدم جهازه بعناية لسنوات من غير أن يكسره، كما يصلحه بسرعة فور توقفه. وهو شيء لمسته بنفسي، خلال عشرتي الطويلة مع الألمان، فكنت أتعجب من سرعة كشفهم لضوء محترق وباب مخلخل وزجاج مكسور، فلا يدخل عليها ليل إلا وعادت كما كانت.

والحضارة هي باختصار ثلاث كلمات: إيجاد الشيء وصيانته وتطويره، ونحن لم ندخل هذا الفضاء بعد فهل من مدكر؟  

نافذة:

حينما يعتنق اليابانيون أو النرويجيون الإسلام فلن تكون نسخته كما لو اعتنقه أهل البينين وبوركينا فاسو في إفريقيا أو الإكوادور في أمريكا الجنوبية فلكل أمة مظهر وتجل خاص بها

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى