حرب الرمال بعيون الخارجية الأمريكية
معارك أكتوبر 1963 تسببت في عقدة للجزائريين

يونس جنوحي
مساء الثامن من أكتوبر 1963، في ساعات متأخرة، كان السفير الأمريكي في المغرب، السيد جون فيرگسون، غير بعيد عن هاتف المكتب، في انتظار أن يتم ربطه مباشرة بمكتب الملك الراحل الحسن الثاني.
أولى وكالات الأنباء نقلت خبر مواجهة بين الجزائر والمغرب، في الحدود الشرقية في منطقة «حاسي بيضا».. ولم يكن الأمريكيون وقتها يتوفرون على المعطيات كاملة..
اكتشف الأمريكيون أن الملك الحسن الثاني كان مرتاحا، وجنرالاته حسموا الحرب منذ الساعات الأولى.. في حين أن الرئيس الأمريكي ظل قلقا، مخافة أن يتدخل السوفيات لمساعدة الجزائريين، ودق مسمار في المنطقة.
+++++++++++++++++++++++
جون كينيدي اعتبر الحدود بين المغرب والجزائر «ملفا مقلقا»
عندما تلقت وزارة الخارجية الأمريكية أول التقارير، صباح يوم 9 أكتوبر 1963، والذي يفيد بأن مواجهة عسكرية بين المغرب والجزائر قد اندلعت في الحدود الشرقية، في منطقة تسمى «حاسي بيضا».. كان أول ما بادر إليه الرئيس الأمريكي وقتها، جون كينيدي، أنه استدعى خبيره الأمني في قضايا شمال إفريقيا، وطرح عليه السؤال الآتي:
«-هل هناك احتمالات أن يضع السوفيات أيديهم على منطقة واعدة، إن هم تدخلوا في المنطقة؟
– سيادة الرئيس الأمر مبكر على هذه الاحتمالات.. الصحافة، والتقارير التي نتوفر عليها تتحدث عن تشنج في منطقة حدودية.
– ابحث لي عن مزيد من المعطيات. لا أريد أن يستثمر السوفيات الموضوع لصالحهم. قد يبحثون هناك عن النفط، وقد يحصلون على حظوة لإنشاء مركز مراقبة. لا يجب أن يحدث أي من هذا».
توالت الساعات، وتأكد للأمريكيين أن الأمر يتعلق باستفزاز سببه جنود جزائريون، في وقت كانت فيه الجزائر قد حصلت على الاستقلال، قبل أشهر فقط. الخبراء الأمريكيون استنتجوا سريعا أن منفذي أول اختراق ليسوا إلا مدفوعين، ويستحيل أن يكونوا قد استفادوا من تكوين عسكري يسمح لهم بشن معركة بالمعنى العسكري للكلمة.
وفي اليوم نفسه، تأكد الأمريكيون أن المغرب جاهز للدفاع عن نفوذه الترابي، وأرسل السفير الأمريكي في المغرب، السيد «فيرگسون»، برقية إلى واشنطن نقل فيها ما دار بينه وبين الملك الراحل الحسن الثاني هاتفيا، وتأكد للسفير أن الملك الحسن الثاني ليست لديه أي تطلعات لاستمرار الحرب، أو اجتياح الجزائر – رغم أن المغرب وقتها يتوفر على إمكانيات عسكرية هائلة تتيح هذه الإمكانية وبسهولة-، وأكد للسفير أن الأمر يتعلق بالدفاع عن السيادة المغربية ضد الاعتداء وتأمين الحدود الحالية.
أبان الرئيس كينيدي، من خلال ما نقلته عنه الصحف الأمريكية، أنه يتخوف من تدخل سوفياتي ويعتبر تدهور العلاقات المغربية الجزائرية، ملفا مقلقا بالنسبة إليه. إذ إن مستشاريه أكدوا له أن السوفيات لن يضيعوا الفرصة لكي يدخلوا على الخط.
الروس لم يكونوا راضين عن عدم تجديد الملك الحسن الثاني لاتفاق تزويد الجيش المغربي بالعتاد، سواء البري أو الجوي، وبدل ذلك، سافر في زيارة رسمية إلى الولايات المتحدة، وأبرم اتفاقيات مع الرئيس كينيدي، من بينها اتفاق عسكري يقضي بتزويد المغرب بطائرات متطورة ومتفوقة على الطائرات السوفياتية، بالإضافة إلى إطلاق برنامج تدريب للطيارين المغاربة في أمريكا، وهم أنفسهم الطيارون الذين سبق أن استفادوا من تدريب مكثف ما بين سنتي 1956 و1959، على يد العسكريين السوفيات.
هذا التحول في العلاقات المغربية السوفياتية، جعل الأمريكيين يتوقعون أن يُسلح الروس الجزائريين، وتتحول الجزائر إلى معسكر شرقي في منطقة استراتيجية في قلب البحر المتوسط.. لكن سرعان ما تبددت مخاوف الأمريكيين وهم يرون كيف أن الملك الحسن الثاني حسم «حرب الرمال» لصالحه، ولم يترك مجالا لأي جهة أجنبية، حتى لو كانت عربية، لكي تستثمر في الملف.
حرب الرمال بعيون «الطيار» صالح حشاد
غادرنا يوم 13 شتنبر الماضي، الطيار العسكري صالح حشاد، الذي اقترن اسمه بمعتقل تازمامارت، بعد تورطه في الانقلاب الذي استهدف طائرة الملك الحسن الثاني، صيف 1972.
صالح حشاد ينتمي إلى جيل «النبوغ» في الطيران المغربي، وشارك في حرب الرمال، واحتفظ بذكريات التدخل الجوي لإفشال مخططات الجزائريين، وشهد على الأرض لحظات تاريخية، مثل اعتقال ركاب المروحية المصرية، التي نزلت في التراب المغربي، بعد أن ضل طاقمها طريقهم، وافتضح تدخل المصريين في «حرب الرمال» لمساندة الجزائر.
انفردت «الأخبار» بنشر مذكرات الطيران الخاصة بالطيار العسكري صالح حشاد، خلال شهر رمضان صيف 2016، والتي ترجمها وأعدها الكاتب عبد الكريم جويطي، وأرفقت بأسئلة أجاب عنها صالح حشاد «بدون تحفظ».
من أقوى ما يذكره حشاد عن حرب الرمال: «وهكذا هاجم الجزائريون تندوف يوم 8 أكتوبر 1963، وقتلوا العديد من الجنود المغاربة. فصارت المواجهة حتمية ودارت حول آبار حاسي بيضا. استقر الجنرال إدريس بن عمر في تاغونيت غير بعيد من الحدود لقيادة العمليات، وخططت القيادة العليا لإقامة جسر جوي لنقل الأغذية والعتاد للمقاتلين عبر طائرات C119 وDC3.
وكان من الواجب تأمين حماية جوية لهذا الجسر، لذا تلقيت يوم 11 أكتوبر 1963 الأمر من القيادة العليا بأن ألتحق بقاعدة مراكش على رأس سرب طائرات «الميغ17». تمثلت مهمتي في حماية طائرات النقل، والقيام بمهمات استطلاع في أرض العدو، لرصد تجمعات جنده وإخبار القيادة بذلك.
وذهب سرب طائرات «الميغ»، تحت قيادة عمار (قائد القاعدة الجوية يومها) إلى وجدة، لحماية المنطقة الشمالية الشرقية.
دارت رحى المعركة حول بئر حاسي بيضا، وكانت قواتنا متحكمة في الوضع تساندها طائرات موران المسلحة 7/12 وروكيت T10 والقنابل. وكل يوم كنت أقدم تقريرا للقيادة العليا الموجودة في مراكش، تحت إمرة الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا.
كنت أوغل في سماء الجزائر بكل حرية فلا طائرة هناك لاعتراضي، وفي كل مرة كنت ألاحظ خزانات سوداء كبيرة متوجهة نحو حاسي بيضا مخلفة وراءها عاصفة من الغبار. وبما أن قواتنا كانت تتحكم في البئر، وهو مكان استراتيجي في جبهة القتال، فإن هذه الخزانات كانت تؤمن الماء للقوات الجزائرية. قدمت تقريرا في الموضوع للقيادة العليا المتقدمة، وحددت الموقع من الخريطة. التحق بي بامعروف الذي كان في تدريب بفرنسا، ليقوم بالواجب تجاه الوطن. وفي الغد طرنا أنا وهو للقيام بمهمة استطلاعية، فرأينا المنظر نفسه.. خزان أسود كبير يتوجه نحو الجبهة، ويخلف وراءه شريطا هائلا من الغبار. نزلنا من علو 9 آلاف متر نحو الهدف، وخرمناه بمدافعنا 37 مليمترا ونحن نحلق على علو منخفض.
اضطررنا للاكتفاء بهجومين، وكان الأمر كافيا لجعل الماء الذي كان الجنود الجزائريون ينتظرونه يتسرب من الخزان.
وتوالت الهجمات على خزانات المياه وأعطت أكلها. فعدد من الجنود الجزائريين العطشين استسلموا ونقلوا إلى مراكش، وقد اندهشت حين رأيت بأن الأسرى ليسوا سوى شبابا بلا تجربة سيقوا إلى الجبهة بلا تدريب حقيقي».
أجاب صالح حشاد عن سؤال طرحته عليه «الأخبار»:
«أشرت لنا في السابق إلى أن خبرتكم كطيارين مغاربة هي التي حسمت نتيجة حرب الرمال لصالح المغرب.
+نحن «ساهمنا» في حسم الأمر، فهناك جنود ضحوا بأرواحهم على الأرض ودافعوا باستماتة عن المغرب. نحن بحكم أننا طيارون متحررون من الأرض، وبحكم أننا كنا نرى الأحداث من أعلى ونشارك فيها، فقد ساهم أمر ضرب خزانات الماء في إضعاف المقاتلين الجزائريين وإجبارهم على الاستسلام.
أما بخصوص المروحية التي كانت تقل الضباط المصريين الذين من بينهم الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، فإنها كانت واحدة من المروحيات التي أخبرتك سابقا إنها رُكبت في مكناس ما بين 1961 و1962 على أيدي تقنيين سوفيات، وأهداها الاتحاد السوفياتي إلى الجزائر، ورأينا بطبيعة الحال كيف أنها استعملتها ضدنا».
++++++++++++++++++++++++
واشنطن تخوفت من هيمنة «السوفيات» على الجزائر وتدخلهم في حرب الرمال
بحسب ما تنص عليه الوثيقة المؤرخة في العاشر من أكتوبر 1963، والمرفوعة من سفارة واشنطن في الرباط إلى مقر وزارة الخارجية، فإن السفير اتصل بالملك الراحل الحسن الثاني هاتفيا، بمجرد ما أن انتشر خبر اندلاع مواجهة على مستوى «حاسي بيضا»، في الحدود الشرقية المغربية الجزائرية، وعبر له الملك الحسن الثاني عن موقف سياسي وعسكري شجاع، مفاده أن المغرب صارم في الدفاع عن نفوذه الترابي ضد أي اعتداء، حتى لو كان من بلد جار مثل الجزائر.
الملك الحسن الثاني، بحسب الوثيقة، كان واضحا عندما تواصل معه السفير الأمريكي، وأخبره أن المغرب لن يتساهل نهائيا في التعامل مع أي اختراق لحدوده البرية.
رسالة السفير أوضحت أن الهاجس الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية لم يكن منصبا على تداعيات المواجهة العسكرية، بقدر ما كان ينصب على المساعدات المفترضة التي قد تتلقاها الجزائر من الاتحاد السوفياتي.
ذُيلت الوثيقة الأمريكية بفقرة جاء فيها أن السفير متخوف من أن تطول مدة الحرب بين المغرب والجزائر، وأكد أن الحرب إن طالت فإن تدخل روسيا لمؤازرة الجزائر خيار وارد جدا.. خصوصا وأن الجيش الجزائري، بحسب ما جاء في الوثيقة، لم يكن يتوفر على أي معدات أو آليات لخوض حرب على الميدان، في حين أن الجيش المغربي كان متقدما على الجيش الجزائري بأشواط.
الوثيقة تقول أيضا إن السفارة الأمريكية في الرباط تقترح تكثيف المراقبة والاتصالات، لرصد أي تحرك سوفياتي لتزويد الجزائر بالسلاح، وجاء فيها أن «الأسلحة السوفياتية إن وصلت إلى منطقة الحدود الشرقية بين المغرب والجزائر، فهذا يعني بسط نفوذ الاتحاد السوفياتي في منطقة استراتيجية ومهمة».
ما زاد من مخاوف السفير الأمريكي في الرباط، أن الرأي العام في المغرب كان يتحدث عن انتصار محسوم للمعركة، واتضح أيضا أن الجزائريين لم يكونوا يخوضون معركة بمعنى «الحرب»، وإنما كانوا يقاتلون على طريقة «الميليشيات» أو حرب العصابات.
بعد اطلاع السفير الأمريكي في الرباط على أولى الصور التي وصلت إلى الصحافة المغربية من الميدان، اتضح أن أفراد الجيش الجزائري لم يكونوا نظاميين، وإنما جرت الاستعانة بهم للقتال ضد المغرب، دون أن يكونوا على دراية بالحرب.. وكشفت الصور أيضا أن أغلب المقاتلين الجزائريين لم يكونوا يتوفرون على لياقة عسكرية، حتى أن بعض الصور التي توصل بها السفير للأسرى الجزائريين، كشفت أن بعض المقاتلين كانوا يرتدون النعال المحلية وليس الأحذية العسكرية.
هذه المعطيات جعلت السفير يكتب رسالة أخرى إلى واشنطن مؤرخة في يوم 15 أكتوبر، جاء فيها أن الجزائر قد تستعين بالاتحاد السوفياتي لتزويدها بالمعدات والسلاح. وما قد يشجع السوفيات على المضي قدما في تسليح الجزائر، أن المغرب ألغى الاتفاق العسكري الذي ربطه مع الاتحاد السوفياتي منذ 1956، موقعا عقدا مع الولايات المتحدة، التي وفرت أسطول الطائرات المقاتلة «إف 5». يقول السفير إن السوفيات لن يفوتوا فرصة تاريخية لكي يعيدوا نشر أسلحتهم في غرب شمال إفريقيا، واستغلال «حرب الرمال» لصالحهم.
السفير اعتبر أيضا أن هناك تفاؤلا كبيرا في المغرب، بحسم المعركة لصالح الجيش المغربي، وإيمان كبير بمشروعية الدفاع عن النفس، على اعتبار أن الجزائريين هم من بادروا إلى اختراق المنطقة الحدودية.
وثائق سوفياتية وأمريكية: حرب الرمال كانت تمهيدا للانقلاب على بن بلة
طالما أنكر الجزائريون فساد «الطبخة» الشهيرة التي سبقت مؤامرة استفزاز المغرب بالتوغل في المنطقة الحدودية الشرقية، بالقرب من «حاسي بيضا»، بتآمر من هواري بومدين، وزير الدفاع، وشلته من العسكريين، وتوريط رئيس الجمهورية المنتخب، أحمد بن بلة، مع المغرب.
أحد الجزائريين الذين امتلكوا الشجاعة لفضح هذه الممارسات التي كان الهدف منها قطع علاقة بن بلة مع المغرب، تمهيدا للانقلاب عليه وسجنه، واستيلاء بومدين على السلطة، هو الكاتب الجزائري فريد عليلات. هذا الأخير أصدر كتابا تزامنا مع الحراك الجزائري الذي أسقط بوتفليقة، واختار له عنوانا مثيرا: «Bouteflika: L,histoire secrete».
قدّم هذا الكاتب إفادات أكدت صحة ما جاء في أرشيف مخابرات الاتحاد السوفياتي، منذ ستينيات القرن الماضي.
يوجد تقرير للمخابرات السوفياتية يعود إلى يوم 14 مارس 1964، يكشف أن السوفيات كانوا يعرفون تفاصيل خطة هواري بومدين، للإطاحة ببن بلة وكشفت الوثيقة أن دبلوماسيا سوفياتيا كانت تربطه صداقة في باريس مع سكرتير وزير الدفاع هواري بومدين، هو الذي سرب إليه كل تلك التفاصيل، بما فيها التجسس على مكالمات الرئيس أحمد بن بلة مع الملك الحسن الثاني مهما كانت مدتها قصيرة، وحتى لو كانت مكالمات غير رسمية.
كانت التقارير السرية للمخابرات المغربية خلال سنة 1963، تنقل للملك الحسن الثاني تفاصيل ما يقع في الجزائر، وتضعه في الصورة. وعلم مبكرا أن الوضع كارثي هناك، وأن انقلابا كبيرا وقع ضد الرجل يموله زعماء عرب للأسف.
اصطف كل من الملك الحسن الثاني، والأردني الملك حسين، لمساندة أحمد بن بلة. لكن ذلك السند وحده لم يكن كافيا، إذ إن الضباط المصريين كانوا يمولون هواري بومدين.
يومها قال أحمد بن بلة كلمته الشهيرة بحق المصريين. كان يظن أن جمال عبد الناصر يمول الثورة الجزائرية بالسلاح، قبل حصول الجزائر على الاستقلال، ظنا منه أن الرجل يؤمن بالحركات التحررية ويدعمها. في حين أنه كان يطمح إلى السيطرة على الحياة العامة في الجزائر، وتحويلها بعد الاستقلال إلى ثكنة عسكرية يحكمها الجيش الجزائري وليس رئاسة الجمهورية.
وحرب الرمال كانت دليلا ماديا قويا على التورط المصري هناك. إذ إن اعتقال المغرب للضباط المصريين الذين كان من بينهم الطيار حسني مبارك، الرئيس المستقبلي لمصر، بعد اقتحامهم للأجواء المغربية ونزولهم بمروحية في الصحراء ظنا منهم أنهم في الجزائر، كان أكبر دليل على هذا الالتباس. خصوصا وأن أحمد بن بلة لم يكن يعرف أي شيء عن هذا التنسيق بين المروحية المصرية وهواري بومدين.
ظل أحمد بن بلة يتمتع بدعم الملك الحسن الثاني، نفسيا على الأقل. لكن كان على الرجل أن يضبط بلاده جيدا، ويمسك زمام الأمور، وهو ما لم يتمكن منه، إذ إن رفيقه هواري بومدين خطف حرفيا البلاد من يديه.
الأمريكيون والفرنسيون حذروا الحسن الثاني من معارضيه بعد الحرب
كان أكثر ما أقلق الملك الراحل الحسن الثاني هو موقف المهدي بن بركة من حرب الرمال، فقد كان وقتها صديقا للجزائريين، وحصل منهم على مساعدات مادية وجواز جزائري لكي يسافر به بحرية إلى فرنسا. وأعطى تصريحات للصحافة في عز حرب الرمال أعرب فيها عن مساندته للجزائريين، ورفض تلك الحرب.
هذه المعطيات تناولتها مخابرات الاتحاد السوفياتي أيضا، إذ إن عميلا مزدوجا كان يحمل اسم «N.T» عمل لصالح الموساد الإسرائيلي والاتحاد السوفياتي في الوقت نفسه، وباعهم ميكروفيلم كان يحتوي على وثائق رسمية مصدرها مكتب هواري بومدين، حصلت عليها الموساد وتابعت من خلالها أطوار تمويله للمهدي بن بركة، واستغلاله لتصريحه الذي أغضب الملك الحسن الثاني سنة 1963، بسبب حرب الرمال، إذ إن بومدين كان قد أمر صحافة بلاده بأن تنقل تصريح المهدي بن بركة على صفحاتها وتمنحه مساحة للحوار في الراديو الجزائري، لكن بن بركة اعتذر عن تسجيله، بحجة التزامه بموعد في باريس.
حتى بعض زملاء المهدي بن بركة وأصدقائه تحفظوا على التعليق على استثمار الجزائريين لتصريحاته المعارضة للملك الحسن الثاني، وتوظيفها ضد المغرب في حرب الرمال.
الأمريكيون حذروا الملك الحسن الثاني من العلاقة بين بن بركة والسوفيات، ولم يستبعدوا أن يكون هناك تمويل من الأنظمة المعادية للمغرب – خصوصا مصر خلال فترة حكم جمال عبد الناصر، ثم سوريا- لتطوير «حرب الرمال»، وخلق معارك أخرى في المستقبل يكون الهدف منها قلب النظام في المغرب.
كان المغرب يتوفر على معطيات مهمة ترصد تحركات المعارضين المغاربة في الجزائر. فقد علم الملك الراحل الحسن الثاني بأن مجموعة قدماء المقاومة والاتحاديين المحكومين والفارين في مؤامرة يوليوز 1963، قد بدؤوا ينظمون صفوفهم، وأن هواري بومدين سخي معهم ومنحهم مساحات للتدرب على حمل السلاح، بل ووعدهم بتمكينهم من السلاح لإدخاله برا إلى المغرب.
تأكدت مضامين التقارير بعد عشر سنوات، وبالضبط خلال مؤامرة مارس 1973 الشهيرة، حيث اعترف الموقوفون مع عمر دهكون، بأنهم خططوا فعلا لإدخال السلاح إلى المغرب، والفرق أن جماعة 1973، تدربوا على حمل السلاح وحرب العصابات في منطقة «الزبداني» في التراب السوري، بينما جماعة 1963، تدربوا في الجزائر. والمشترك بين الفريقين أنهما معا تلقيا وعودا من هواري بومدين، بتموين ثورتهم المسلحة.
كان المهدي بن بركة نواة هذه العمليات، ومحرك الاتصال القوي بين المعارضين المغاربة والأنظمة المعادية للملك الراحل الحسن الثاني.
حتى أن المخابرات الفرنسية، بحسب ما كشفته وثائق «CIA» أعلمت الملك الراحل الحسن الثاني بتفاصيل تحركات المهدي بن بركة، فوق ترابها، وانتبهت إلى أنه يلتقي مسؤولين سوفيات وجزائريين ومصريين، المشترك بينهم جميعا أنهم معادون للمغرب. وعندما أخبر الأمريكيون الملك الحسن الثاني بما لديهم من معطيات، بعد زيارة الملك الحسن الثاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1963، اكتشفوا أنه توصل من الفرنسيين أيضا بمعطيات مشابهة.
المذبوح طمأن الأمريكيين بأن المغرب ربح «حرب الرمال» قبل بدايتها
في وثيقة أخرى من وثائق أرشيف الخارجية الأمريكية، التي رفعت عنها السرية سنة 2013، نكتشف أن السفير الأمريكي كان دائم الاتصال بالكولونيل المذبوح. وكان يكلمه أكثر من مرة في اليوم، خلال الفترة ما بين 8 أكتوبر و30 منه.
خلال الاتصال الأول بين السفير الأمريكي، «جون فيرگسون» والكولونيل المذبوح، بحسب التقرير دائما، بدا الكولونيل مرتاحا، علما أن الحرب كانت قد انطلقت، قبل ساعات فقط. الكولونيل أخبر السفير أن الملك الحسن الثاني أعطى تعليمات مباشرة لاثنين من الجنرالات لتكثيف القوات وتعزيز «حاسي بيضا»، وإجبار المهاجمين على التراجع..
كما أن المذبوح كشف للسفير عن معلومة ثمينة. يقول الكولونيل إن الملك الحسن الثاني كان جاهزا للحرب، بفضل التقارير التي أفادت رصد تحركات مريبة على مستوى الحدود الشرقية. الكولونيل أضاف أيضا أن الملك الحسن الثاني توصل بتقارير مفصلة وموثوقة من منتصف غشت 1963، تؤكد أن مجموعات المعارضين الذين فروا من المغرب، والمهدي بن بركة الذي يقيم في الجزائر منذ أواخر 1962، يُعدون لمؤامرة.
هذه المعطيات، بحسب المذبوح، جعلت الملك الحسن الثاني يحظى بالأفضلية، وما أن أطلقت الشرارة الأولى للهجوم الجزائري على «حاسي بيضا»، حتى كان الرد المغربي قويا.
يقول الكولونيل أيضا إن جنرالات الملك الحسن الثاني يعتبرون أنفسهم في مهمة لا يمكن العودة منها إلا منتصرين.
في اتصال ثان يوم 14 أكتوبر، قال الكولونيل المذبوح للسفير «فيرگسون» إن الأخبار القادمة من الصحراء الشرقية تؤكد فوز المغرب بالمعركة، وإن الملك الحسن الثاني ليست لديه أي نية للتفاوض بالأسرى الجزائريين نهائيا، وإنه مستعد لإطلاق سراحهم على الفور.
السفير الأمريكي سأل الكولونيل المذبوح عن توقعاته بشأن حصول الجزائر على إمداد عسكري من الاتحاد السوفياتي، فكان رد الكولونيل: «لقد فات الأوان.. قواتنا الجوية تُؤَمِّنُ فعلا كامل النفوذ الجوي، وأي طائرة تحلق في اتجاهنا سوف يتم التصدي لها قبل حتى أن تقطع نصف المسافة. الأمر محسوم».
في اتصال ثالث، قال الكولونيل المذبوح إن معنويات الجنرالات مرتفعة، خصوصا بعد اكتشاف وجود تدخل مصري في الحرب بين المغرب والجزائر. وقال الكولونيل إن الأمر بات مفضوحا، وأضاف: «إن المستهدف من وراء هذه الخطوة الجزائرية، هو علاقة الملك الحسن الثاني بأصدقائه الجزائريين، خصوصا الرئيس بن بلة. لدي يقين أنهم في الجزائر يخططون لأمر ما، ويريدون اغتيال الصداقة بين البلدين، أما الحرب فلا يقدرون عليها وليس لديهم أي فرصة».
تأكد لاحقا أن هذه التوقعات قد تحققت. أزيح بن بلة عن السلطة، وجاء محله المدبر الرئيسي للهجوم على «حاسي بيضا»، هواري بومدين، وأصبح رئيسا للجمهورية. تأكدت مخاوف الأمريكيين، فقد وضع الرئيس الانقلابي، الذي سيطر على البلاد إلى حدود دجنبر سنة 1978، يده في يد السوفيات.. وحرم البلاد من فرص استثمارية وسياسية مهمة، وفضل أن يحول البلاد إلى معسكر شرقي كلف الجزائريين واقتصاد بلادهم الكثير..
في حين أن أحمد بن بلة، الرئيس المنتخب، قد قضى سنوات طويلة في السجن ولم يُفرج عنه، رغم محاولات عربية وفرنسية، إلا بعد أن تأكد أن بومدين لا يمكن أن يستمر في قيادة البلاد إلى الأبد..
عندما أبيد عهد هواري بومدين، وسقط رجاله المقربون، اتضح أن الاعتداء على «حاسي بيضا» كلف الجزائريين الكثير، سيما وأن جيشهم لم يكن قد تكونت نواته بعد، وأن المقاتلين قد اقتيدوا إلى حتفهم بأمر من بومدين، الذي كان وزيرا للدفاع، بأمر مباشر دون الرجوع إلى رئيس الجمهورية.. وهو ما يجعل هذه الوقائع ترقى إلى مستوى جريمة حرب ضد الجزائريين، قادها ضدهم رئيسهم الذي تسبب في تشنج العلاقات المغربية الجزائرية.
ورغم أن المغرب والجزائر جلسا إلى طاولة واحدة سنة 1964، ثم 1966، وأيضا في 1972، لترسيم الحدود الشرقية، إلا أن «روح» التآمر ظلت تخيم على المنطق الجزائري في التعامل مع الملف، رغم أن المغرب ربح «حرب الرمال»، وسحب قواته إلى الوراء تأكيدا على حسن النية التي تعامل بها الملك الراحل الحسن الثاني مع الموقف.. وكان بإمكان المغرب – وهذا ما جاء في شهادات مسؤولين سابقين- حسم المعركة إلى الأبد، واستثمار «حرب الرمال» جغرافيا ونشر القوات المغربية فوقها.. لكن الملك الراحل الحسن الثاني فضل التعامل بحكمة، وتلقين الجزائريين درسا عسكريا، بدل استغلال الواقعة لتوسيع الحدود أو تمديدها.





