الرأي

رجال القائد السنهوري يستشهدون في تيندوف

لا يرد اسم القائد عبد الله السنهوري كثيرا في أدبيات الكفاح من أجل الوحدة وجلاء الاستعمار. والحال أن تعيينه بظهير شريف كآخر ممثل للسلطة المركزية المغربية في ما كان يعرف بـ«قصبة تيندوف»، أبقى على مختلف الروابط الروحية والقانونية التي جمعت سكان الإقليم تحت لواء الدولة المغربية عبر العصور.
لكن هذا الرجل الذي جيش مقاتلي القبائل لمواجهة القوات الفرنسية لدى غزوها تيندوف، بغاية إلحاقها بالتراب الجزائري، حين لم تكن تتصور أنه سيأتي يوم تغادر فيه الجزائر.. اعتبر مهمة رجاله أكثر نبلا، إذ ربط بحدس الوعي بين نفي الملك الراحل محمد الخامس وأفراد أسرته إلى مدغشقر، والمخطط الاستعماري الذي اعتبر الحدث فرصة مواتية لتمرير أكبر مؤامرة ضد المغرب.
تذكر الوقائع أن رجال القائد السنهوري الذين هبوا ضد الاحتلال الفرنسي، كانوا يضعون الأعلام المغربية فوق العربات والبنايات والمساكن للدلالة على ارتباطهم الأزلي بالهوية المغربية. وقتل منهم أثناء تلك المواجهات ما لا يقل عن 120 شهيدا دفنوا في قبور متناثرة، لولا أن السلطات الجزائرية بعد الاستقلال عمدت إلى إتلاف معالمها وتبديد أي أثر يوصل إليها.
وفطن القائد السنهوري إلى جزئيات الخطة الاستعمارية، عندما شرعت الإدارة الفرنسية في محاولات إغراء السكان الذين بحوزتهم أموال بالعملة المغربية على استبدالها في ظروف مغرية. ولم يكن الهدف يزيد عن محو آثار ارتباط الساكنة بالمغرب، إذ كان يتم الدعاء في المساجد لفائدة السلطان، ولم يكن يسود التجارة آنذاك إلا الريال الحسني والفرنك المغربي.
روى لي النائب بريكة الزروالي، وكان من الشخصيات الأكثر نفوذا واحتراما في الأقاليم الصحراوية، أن مسألة العملة والعلم شكلتا عقدة الاستعمار الإسباني في الساقية الحمراء ووادي الذهب. إذ جرت العديد من المحاولات لجمع كل ما له صلة بهذين الرمزين. بينما كان السكان يحتفظون في خزائن وأماكن بعيدة عن الأنظار بالعملة الوطنية وصور الملك الراحل محمد الخامس والرايات المغربية. وانتبه أعضاء من بعثة الأمم المتحدة إلى الصحراء قبل استرجاعها إلى رفع أعلام مغربية، فيما كانت السلطات الإسبانية تمد بعض الشباب بأعلام إسبانية للإيحاء بأنهم إسبانيو الولاء.
من المفارقات أن مهمة تلك اللجنة التي أوفدتها الأمم المتحدة في ذروة المواجهة المغربية – الإسبانية، أغفلت زيارة الأقاليم الشمالية المحاذية التي ضمت في فترة سابقة أفواج النازحين المغاربة المتحدرين من أصول صحراوية، فرارا من التطهير العرقي الذي نفذه التواطؤ الفرنسي – الإسباني في عملية «أوكافيون».
بيد أن زعيم حزب الاستقلال محمد بوستة كان يرى، من موقعه كرجل قانون، أن زيارة بعثة الأمم المتحدة تلك ستظل ناقصة، ما لم تشمل مناطق في الصحراء الشرقية، وتحديدا تيندوف. واعترف أكثر من مسؤول في السلطة والاستخبارات العسكرية الجزائرية، بأن أكبر مشكلة واجهت الجزائر تمثلت في كيفية القضاء على رواسب الوجود المغربي في تيندوف.
تيندوف ليست موقعا أو أرضا فقط، ولكن رمزيتها تفوق دلالات الأمكنة والأزمنة، من حيث الحمولة التاريخية وما يترتب على نظرية سيقت بمبرر احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار. وإذا كانت الجزائر المفترض أن معاناتها الطويلة مع الحقبة الاستعمارية البغيضة عملت المستحيل لتسويق هذه الأطروحة، فلأنها أساسا كانت تنطلق من قضم أراض أدمجت تحت نفوذها بالقوة.
إنه لأمر لافت أن تكون مواثيق الشرعية الدولية تحظر احتلال أراضي الغير بالقوة، فيما تتستر الجزائر تحت يافطة الحدود الموروثة عن الاستعمار. في خلفيات الموقف أن السلطات الجزائرية المتعاقبة لم تبتلع هزيمة وعار حرب الرمال التي دارت حول تيندوف. وكم كان القائد العسكري الجنرال الكتاني صائبا حين طلب الإذن بألا يتوقف رجاله إلا على مشارف أو عمق تيندوف.
لعله أراد أن يثأر لرجال القائد السنهوري بطريقة مشرفة، كما في الحروب المشروعة دفاعا عن النفس. وصادف وقتها أن القائد الوحدوي كان يتابع تطورات الأحداث من إقامته في طنجة التي عاش فيها بقية سنوات عمره، قبل أن يغيبه الموت في سبعينيات القرن الماضي. لا أدري إن كان العمر الذي امتد به إلى الأجل المحتوم أراد أن يجعله أكثر يقينا بأن استشهاد رجاله على يد القوات الفرنسية، لم يكن أكثر من مقدمة في مسلسل البلقنة واقتطاع الأراضي المغربية.
لم تجد الجزائر ما ترد به على هزيمة ساحقة ثانية بعد حرب الرمال للعام 1963، سوى الاعتراف بكيان وهمي أطلقت عليه اسم «الجمهورية الصحراوية» الفضائية في تيندوف. وبالذات على خلفية أسر القوات المغربية ضباطا وجنودا جزائريين، كانوا توغلوا في منطقة «أمغالا». لكنها الهزائم المروعة تدفع البعض إلى الهروب إلى الأمام. فقد خسرت الجزائر نزال أمغالا ونزال التاريخ الذي لا يمحوه الوهم.
وسيظل أمام الفرنسيين بالذات فرصة مصارحة الأجيال بأنهم استعمروا أراضي مغربية اسمها تيندوف، وألحقوها تعسفا بالجزائر، قبل أن يفكروا في إقامة كيان صحراوي منفصل عن المغرب والجزائر معا، لكنه تبخر مع الريح، كما تتبخر أساطير الوهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى