شوف تشوف

الرأي

زراعة الدماغ

بقلم: خالص جلبي

يسمع الإنسان كثيرا ومنذ فترة طويلة عن عمليات زرع الأعضاء، ففي الحالات النهائية من الفشل الكلوي والكبدي يتم زرع أعضاء جديدة، ولكن قصة الفشل النهائي غير معروفة عن الدماغ، والسبب هو طبيعة الوظائف، فالكلية تعمل كوظيفة رئيسية في تنقية الدم، وفي تنظيم الضغط الدموي وإنتاج الدم كوظيفة جانبية، في حين يعمل الكبد كمركز جمارك عام في البدن، في أكثر من خمسين وظيفة معقدة، ولكن الدماغ يحتل وظائف لانهائية في شبكة خلايا مخيفة، ويعتبر كل توصيف له من قبيل التقريب والتبسيط، في تحديد ما لا يمكن تحديده. يكفي أنه مركز الشخصية والوعي والتفكير والنطق، وباختصار كل ما يميز الإنسان في البعد الإنساني الجديد عن بقية المخلوقات، الذي يمثل كونا أصغر، من خلال مائة مليار من الخلايا العصبية، كل خلية لها من الارتباطات ما يفوق الألف، بحيث إن (كابلات) الاتصالات العصبية بين الخلايا، تصل إلى رقم يحمل 40 صفرا لاتصالات خلية واحدة، فيحوي الدماغ بذلك معلومات خمسة مليارات كتاب من حجم 400 صفحة، مع العلم أن مكتبة الكونغرس الأمريكي تعتبر من أضخم مكتبات العالم تحتوي فقط على 20 مليون كتاب، فتكون مكتبة الدماغ أكبر من مكتبة الكونغرس الأمريكي بـ(250) مرة.
يمكن الحديث عن زرع الدماغ في حالات موت الدماغ المؤكدة، ولكن المشكلة القانونية والأدبية تجعل الموضوع في وقتنا الراهن في حكم المستحيل؛ فعمليات زرع القلب والرئتين لم تحدث أي تبدل في الشخصية، في حين أن الدماغ هو الإنسان حقا. وما زلت أذكر شخصا أعرفه تمام المعرفة شارف على الموت، ولكن دماغه كان يعمل كأحسن ما يكون، فكنت أفكر لو أنه تابع حياته بالدماغ فقط، على طريقة مسلسل «كابتن المستقبل CAPTAIN-FUTURE»، دماغ جبار لعالم من مستوى أينشتاين، محفوظ في مصل مغذي ثابت، داخل علبة شفافة إلكترونية يمكن أن تطير، فكان هذا الدماغ العلمي عونا كبيرا للفريق العلمي في مغامراته الكونية؛ فزرع الدماغ بكلمة أخرى معناه نقل شخصية إلى آخر، وحتى لو تمت السيطرة على المشاكل التقنية؛ فعندما يصحو المريض لن يكون الشخص الذي كان في الغيبوبة والسبات.
ولكننا أمام مشاكل تقنية محيرة في الإصابات العصبية، فالشلل ذهب بالحركة ولن يعود إلا ببقايا بسيطة في بعض الإصابات، والخرس يمكن تصليحه ببالغ الصعوبة وفي فترة طويلة ولن يعود كما كان، وينطبق هذا على انقطاع الأعصاب، ففي الوقت الذي تتقدم الأعصاب في نموها البطيء بمعدل مليمتر واحد في اليوم، يصل العصب إلى عضلة جفت وجلد انكمش ومفصل تيبس. وفي حالة مرض باركنسون، يتحول المريض إلى وجه جامد وأطراف مهتزة وفم يسيل باللعاب وعجز يثير الشفقة، وأما مرض مثل (الزهايمر) حيث لا يعرف المريض أين وضع مفتاح السيارة، ولا يعرف كيف يعود إلى بيته إذا خرج منه، فهو الكارثة بالتمام والكمال.
فكر الأطباء في هذا التحدي فعمدوا إلى الالتفاف على الحالة بذكاء إنساني ملفت للنظر، فهم لا يقوموا برفع الدماغ مثل قطعة غيار سيارة ووضع جديد بدلا عنه، بل عمدوا إلى هذا الأوقيانوس الخلوي الدماغي، من المليارات الكثيرة المتناثرة، فاستبدلوا بدل الخلايا الميتة عنها بجديدة، فقامت الجديدة بوظيفة القديمة المدمرة، فحلوا المشكلة بغاية الذكاء والفنية، وكأنه تبديل متدرج لكل الخلايا الدماغية وعلى مهل، بحيث يمكن في المستقبل أن تبدل كل خلايا الدماغ المعطوبة، من خلايا فتية جنينية حيادية (تقنية الخلايا الجذعية) تقوم بالعمل نفسه للتي هرمت وشاخت وعجزت، فحقق العلماء بهذا ضربة موفقة مزدوجة، في المحافظة على شخصية صاحبها، وترميم خلاياه الضعيفة واستبدال المعطوبة، في رحلة سعيدة موفقة بدون نهاية، إلى درجة التفكير في تجديد كامل لكل خلايا الدماغ، وتجديد الشباب من خلالها، لأن الإنسان ونشاطه وحيويته نابعان من دماغه بالدرجة الأولى. لنسمع إذاً إلى التجارب الجديدة في هذا الميدان.
عندما شعر مهندس الكمبيوتر (جورج) المغرم بعمله، وهو من سكان ولاية كاليفورنيا، بأن أصابع يده ترتجف من حين لآخر لم يعرها انتباها كبيرا وعزاها إلى الجهد وكثرة ضرب الأصابع على لوحة الكمبيوتر، الذي لا يكاد يبتعد عنه، إلا أن هذا الرجفان (اللاإرادي) الرتيب الخشن المنتظم تطور بشكل مأساوي مع الوقت، فقد بدأ بالانتشار إلى بقية الأطراف العلوية تدريجيا. كان المرض يتطور وفي علاقة متناقضة محيرة، ففي الحين الذي ترج أطرافه وكأن يده (تعد النقود) أو (تسبح بالمسبحة)، كان يشعر أن بدنه وكأن مادة لاصقة تتغلغل في كل عضلة من عضلات جسمه الثقيل؛ فهو متصلب متيبس يقتلع خطواته اقتلاعا وينتقل بصعوبة بالغة، فإذا شد على نفسه وأراد الإسراع فقد توازنه فهو يُهرع إلى الأمام وكأنه يركض خلف مركز توازنه. لقد استحال إلى كيان مشوه، وبدأ يفقد السيطرة على نظام العضلات في جسده، مع كل الصفاء الذهني الذي يتمتع به دماغه، واكتملت الصورة المرضية بفاجعة ليست على البال، هذه المرة جاءت على تعبيرات وجهه، حيث جمدت التعبيرات، فزالت الابتسامة واختفى الضحك والبكاء، ومعالم الرضى والغضب، وتحول الوجه إلى قناع ثلجي جامد لا ينبس بكلمة، ولا ينم عن معنى، كما في وجه وزراء الخارجية في العادة (لنتذكر كوسيغين الروسي)!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى