الرئيسيةملف التاريخ

طبيب يحمل بندقية.. تصفية تشي غيفارا

في يوم 7 أكتوبر 1967 بينما كان تشي غيفارا هاربا في غابات وأدغال بوليفيا،أبلغ مخبرا القوات البوليفية الخاصة بموقع غيفارا وفرقته في معسكر بواد جورو، فقامت القوات البوليفية بمحاصرة المنطقة، وجرح غيفارا وأسر حين كان يحاول قيادة الفرقة مع “سيمون كوبا سارابيا”. ذكر “جون لي اندرسون” كاتب سيرة تشي في تقاريره أن غيفارا أصيب مرتين وعندما أصبحت بندقيته عديمة الفائدة هتف “لا تطلقوا النار! أنا تشي غيفارا، وأساوي حيا أكثر من ميت”.

تم تقييد غيفارا واقتيد إلى مبنى مدرسة متهالك بني من الطين في قرية قريبة من قرية لاهيغويرا مساء يوم 7 أكتوبر، بعد يوم ونصف رفض غيفارا أن يتم استجوابه من قبل ضباط بوليفيين، وتكلم بهدوء إلى الجنود البوليفيين فقط. أطلق الرصاص على غيفارا في ساقه اليمنى و كان شعره مشعتا بالتراب وكانت ملابسه ممزقة ورثة وقدميه كانتا مغطاتين بأغماد الجلود الخشنة، وعلى الرغم من مظهره المنهك يروي غوزمان أن ” تشي رفع رأسه عاليا ونظر للجميع مباشرة ولم يسأل عن شيء إلا الدخان “. يقول دي غوزمان إنه “أشفق” عليه وأعطاه حقيبة صغيرة من التبغ ثم ابتسم غيفارا وشكره. في ليلة 8 أكتوبر 1967 قام غيفارا، على الرغم من كونه مقيدا من يديه، بركل الضابط البوليفي اسبينوزا على الحائط، بعد أن حاول الضابط انتزاع غليون غيفارا من فمه كتذكار. في مثال آخر للتحدي، بصق جيفارا في وجه الأميرال البوليفي اوجاتاشى قبل إعدامه بوقت قصير.

في صباح الغد في 9 أكتوبر سيطلب غيفارا مقابلة (مدرسة) من القرية، وهي جوليا كورتيز التي تبلغ من العمر 22 عاما. كورتيز ذكرت في وقت لاحق أنها وجدت غيفارا ” رجلا مظهره مقبول ولديه نظرة بسيطة ولمحة قاسية من السخرية ” وخلال المحادثة وجدت نفسها غير قادرة على النظر في عينيه مباشرة لأن النظرة كانت لا تطاق، فعينه خارقة وهادئة. خلال المحادثة القصيرة شكا غيفارا لكورتيز عن الحالة السيئة للمدرسة مشيرا إلى أنها مضادة لتربية الأطفال قائلا “ان هذا هو ما نحاربه بالضبط آنستي، فاعتنوا بالأطفال”.

وفي صباح ذلك اليوم (يوم 9 أكتوبر) أمر الرئيس البوليفي رينيه باريينتوس بقتل غيفارا، كان الجلاد يدعى ماريو تيران وهو جندي نصف مخمور. وقبل لحظات من إعدام غيفارا سأل عما إذا كان يفكر في شيء، أجاب: “لا أنا لا أفكر إلا في خلود الثورة.” ثم قال تشي غيفارا للجلاد ” أنا أعلم أنك جئت لقتلي أطلق النار يا جبان انك لن تقتل سوى رجل. “[ تردد تيران، ثم أطلق النار من بندقيته النصف آلية، لتصيب غيفارا في الذراعين والساقين، ثم سقط غيفارا على الأرض وعلى ما يبدو قضم رباط معصميه ليتجنب الصراخ، ثم أطلقت عدة أعيرة أخرى، مما أدى إلى إصابة قاتلة في الصدر الساعة الواحدة زوالا. سيصاب غيفارا بتسعة أعيرة نارية منها خمس مرات في الساقين، مرة واحدة في كتفه الأيمن والذراع الأيمن، ومرة واحدة في صدره، وطلقه واحدة في الحلق.

بعد مقتل غيفارا سيقوم طبيب عسكري ببتر يديه بينما قام ضباط من الجيش البوليفي بنقل جثمان غيفارا إلى مكان غير معلوم ورفض الكشف عن ما إذا سيتم دفنها أو حرقها. وحفظت الأيدى في الفورمالين ليتم إرسالها إلى بوينس آيرس من أجل التعرف على بصمات الأصابع (بصماته كانت في ملف لدى الشرطة الأرجنتينية) ويقال أنها أرسلت فيما بعد إلى المخابرات الأمريكية.

هذه هي اللحظات الأخيرة للطبيب والجندي الثائر تشي غيفارا الذي سيتحول إلى رمز التحرر والنضال والشرف في كل بقاع أمريكا اللاتينية والعالم.

تحدث المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، الذي اعتقل في أبريل 1967 عندما كان مع غيفارا في بوليفيا، في مقابلة من السجن في أغسطس 1968 بشكل موسع حول ظروف القبض على غيفارا. قال دوبريه الذي عاش مع غيفارا والثوار من المقاتلين لفترة قصيرة، أن غيفارا وثواره عاشوا في الغابة والتهمتهم الغابة أخيرا. وأضاف أن قبره المجهول في الغابة زاد من رمزية الرجل وأعطاها روحا قوية تنبعث دوما في كل ثورة. يروي دوبريه أن غيفارا وغيرهم كانوا يعانون من مرض ما أدى إلى تورم أيديهم وأرجلهم وتحولها إلى اكوام من اللحم لدرجة أنك لا تستطيع تمييز أصابع أيديهم. وفي وصفه لتشي غيفارا يقول دوبريي بأنه كان دوما “متفائل لمستقبل أمريكا اللاتينية” على الرغم من الوضع السىء، ولاحظ أن غيفارا كان “خلص بأن موته سيكون نوعا من الدعوة للنهضة” مشيرا إلى أن تصور غيفارا عن الموت كان “وعدا لولادة جديدة” و”طقوس تجديد دائم للثورة البوليفية واللاتينية”.

إرنستو “تشي” جيفارا (14 يونيو 1928 – 9 أكتوبر 1967) المعروف باسم تشي جيفارا (Che Guevara)، ثوري كوبي ماركسي أرجنتيني المولد، وهو طبيب وكاتب وزعيم حرب العصابات وقائد عسكري ورجل دولة عالمي وشخصية رئيسة في الثورة الكوبية. أصبحت صورته المنمقة منذ وفاته رمزا في كل مكان وشارة عالمية ضمن الثقافة الشعبية ورمز للثورة ونضال التحرر.

سافر جيفارا عندما كان طالبا في كلية الطب في جامعة بوينس آيرس الذي تخرج منها عام 1953، إلى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية مع صديقه ألبيرتو غرانادو على متن دراجة نارية وهو في السنة الأخيرة من الكلية، وكونت تلك الرحلة شخصيته وإحساسه بوحدة أمريكا الجنوبية وبالظلم الكبير الواقع من الإمبرياليين على المزارع اللاتيني البسيط، وتغير داخليا وتولدت لديه الميولات الماركسية بعد مشاهدة الفقر المتوطن هناك وتفاوت الوصول لثروات أمريكا.

أدت تجاربه وملاحظاته خلال هذه الرحلة إلى استنتاج بأن التفاوتات الاقتصادية متأصلة بالمنطقة، والتي كانت نتيجة الرأسمالية الاحتكارية والاستعمار الجديد والإمبريالية. رأى غيفارا أن العلاج الوحيد هو الثورة العالمية، مستلهما أفكار ليون تروتسكي الذي كان يتابع محاضراته بميكسيكو في أواخر ربعينيات القرن الماضي. كان هذا الاعتقاد الدافع وراء تورطه في الإصلاحات الاجتماعية في غواتيمالا في ظل حكم الرئيس جاكوبو أربينز غوزمان، الذي ساعدت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في نهاية المطاف على الإطاحة به مما سهل نشر ايديولوجية غيفارا الراديكالية.

بينما كان غيفارا يعيش في مدينة مكسيكو التقى هناك براؤول كاسترو المنفي مع أصدقائه الذين كانوا يجهزون للثورة وينتظرون خروج فيدل كاسترو من سجنه في كوبا. ما إن خرج هذا الأخير من سجنه حتى قرر غيفارا الانضمام للثورة الكوبية. رأى فيدل كاسترو أنهم في أمس الحاجة إليه كطبيب، وانضم لهم في حركة 26 يوليو، التي غزت كوبا و الإطاحة بالنظام الدكتاتورى المدعم من طرف الولايات المتحدة التي تدعم الديكتاتور الكوبى فولغينسيو باتيستا.

سرعان ما برز غيفارا بين المسلحين وتمت ترقيته إلى الرجل الثاني في القيادة حيث لعب دورا محوريا في نجاح حملة على مدار عامين من الحرب المسلحة التي أطاحت بنظام باتيستا.

في أعقاب الثورة الكوبية قام غيفارا بأداء عدد من الأدوار الرئيسية للحكومة الجديدة، وشمل هذا إعادة النظر في الطعون وفرق الإعدام على المدانين بجرائم الحرب خلال المحاكم الثورية، وأسس قوانين الإصلاح الزراعي عندما كان وزيرا للصناعة وعمل أيضا كرئيس ومدير للبنك الوطني ورئيس تنفيذى للقوات المسلحة الكوبية، كما جاب العالم كدبلوماسي باسم الاشتراكية الكوبية. مثل هذه المواقف سمحت له أن يلعب دورا رئيسيا في تدريب قوات الميليشيات اللائي صددن غزو خليج الخنازير، كما جلب إلى كوبا الصواريخ الباليستية المسلحة نوويا من الاتحاد السوفييتي عام 1962 التي أدت إلى بداية أزمة الصواريخ الكوبية. بالإضافة إلى ذلك كان غيفارا كاتبا عاما يكتب يومياته كما ألف ما يشبه الكتيب لحياة حرب العصابات وكذلك ألف مذكراته الأكثر مبيعا في جميع أنحاء أمريكا الجنوبية رحلة شاب على دراجة نارية.

غادر غيفارا كوبا في عام 1965 من أجل التحريض على الثورات الأولى الفاشلة في الكونغو كينشاسا ومن ثم تلتها محاولة أخرى في بوليفيا، حيث تم إلقاء القبض عليه من قبل وكالة الاستخبارات المركزية بمساعدة القوات البوليفية وتم إعدامه.

لا تزال شخصية غيفارا التاريخية ملهمة ومحترمة، مستقطبة المخيلة الجماعية في هذا الخصوص والعديد من السير الذاتية والمذكرات والمقالات والأفلام الوثائقية والأغاني والأفلام. بل وضمنته مجلة التايم من ضمن المائة شخص الأكثر تأثيرا في القرن العشرين، في حين أن صورته المأخوذة من طرف ألبرتو كوردا والمسماة غيريليرو هيروويكو (ويعني باللغة العربية بطل حرب العصابات) قد اعتبرت “الصورة الأكثر شهرة في العالم.”

في سنة 1968، سنة بعد مقتل تشي غيفارا، سيغضب شبان العالم ويخرجوا إلى الشوارع معلنين أنهم يستطيعون إنهاء الحروب وتغيير ملامح العالم، وقد تحول هذا الرجل الثائر بعد موته إلى شهيد لقضاياهم. أصبح يمثل أحلام ورغبات الملايين ممن يحملون صوره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى