
بقلم: خالص جلبي
بقدر «حتمية» نزول القطعة المعدنية إلى الأرض، بقدر «احتمالية» رسوها على وجه بذاته، ولكن لماذا كان رسو وجه بذاته «احتماليا»؟ وما هي العناصر التي تلعب دورا في تشكيله؟ «من الواضح أننا لن نستطيع أبدا توقع على أي وجه ستسقط قطعة النقد، لأن مصير القطعة تحدده أربعة عناصر على الأقل وهي: رامي القطعة ـ الوسط الذي تسقط فيه القطعة ـ السطح الذي سترسو عليه ـ خصائص القطعة النقدية ذاتها. وكل عنصر من هذه العناصر حيوي بالنسبة إلى النتيجة، وكل منها بدوره نتاج عدد هائل من الأسباب. وفي الحقيقة فإن عدد هذه المسببات لانهائي من الناحية العملية، ولذا من المستحيل وضعها جميعا في الاعتبار في الوقت نفسه، حتى ولو رمية واحدة للقطعة النقديةّ»(1). ولكن ما يحدث مع مشكلة وجه القطعة المعدنية يعبر عن مشكلة كونية ضخمة لفهم منظومة عالم الصدفة، فالمصادفة لا تطل «من جهلنا فقط، ولا من التعقيد اللانهائي لعالمنا فقط، ولا من محدودية دقة القياس فقط، ولكنها أيضا موروثة من المبدأ الشهير (اللايقينية) الذي صاغه عالم الطبيعة الألماني فيرنر هايزنبرغ»(2).
غير أن المصادفة تعبر في الواقع عن «لا توقعية جهلنا، الراجعة إلى المعلومات الرديئة التي بحوزتنا والراجعة إلى غياب البيانات الضرورية، وإلى نقص معرفتنا الأساسية، وهكذا نعرف المصادفة بأنها مقياس للجهل، فكلما قلت المعلومات التي لدينا حول أي موضوع كلما كان سلوكه مصادفة، وبالعكس كلما توفرت المعلومات التي نعرفها حوله قلت سلوكيات المصادفة، وازدادت قدرتنا على توقع سلوكه المستقبلي»، على حد تعبير العالم الروسي (تيميريازيف) (3).
التاريخ والطبيعة مصدران للمعرفة
إذا كان التاريخ يعمل وفق سنن امتازت بالثبات، ولم تكن الصدفة إلا ترسيم مناطق جهلنا وعدم تحكمنا، فإن القرآن اهتم بفكرة القانون في محاولة منه لإنهاء فكرة المعجزة من العقل البشري. ظهر هذا واضحا في عشرات الآيات المتناثرة، فبقدر تكرار انشقاق البحر لموسى، وإحياء الموتى لعيسى، عليهما السلام، بقدر تأكيد القرآن على عدم تورطه في توليد المعجزات، التي لن تغير العقول أكثر من التحريك الأساسي لها في فهم الكون والنفس وأحداث التاريخ، فالقرآن اعتمد بشكل واضح ومبرمج ومكثف التاريخ مصدرا مرجعيا لأفكاره (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم).
مجموعة الأسباب وسبب الأسباب
يجب أن يفهم القانون أو جدلية السببية في الأحداث بشكلين؛ الأول بشكل تراكبي، والثاني بشكل سلسلة تنتهي عند سبب أساسي، ولكنها تبقى في عالم السببية، فعندما تنفجر ثورة، أو تقع حرب، أو يحدث تحول في حياة أمة، فإن هناك مجموعة من العوامل المتضافرة تقود لمثل هذا التحول.
كتب الاقتصادي «مارشال» في إحدى المرات يشير إلى تحذير الناس بكل الوسائل الممكنة من دراسة فعل سبب ما، دون الأخذ بعين الاعتبار الأسباب الأخرى التي تختلط آثارها به. ويأتي بمثل على ذلك انفجار الثورة الشيوعية التي انفجرت عام 1917 م، ويحلل المؤرخ «إدوارد كار» هذه الظاهرة فيقول:
«إن المؤرخ يتعامل مع مجموعة من الأسباب، فإذا اضُطر إلى دراسة أسباب الثورة البلشفية، فإنه قد يشير إلى هزائم روسيا العسكرية المتتالية، وانهيار الاقتصاد الروسي تحت ضغط الحرب، والدعاية البلشفية الفعالة، وفشل الحكومة القيصرية في حل المسألة الزراعية، وتمركز بروليتاريا فقيرة ومستغلة في مصانع بتروغراد، وأن لينين كان يعرف ما يريد، في حين لم يكن أحد من الطرف الآخر يملك رؤية واضحة للأمور، أي باختصار مجموعة عشوائية من الأسباب الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية والشخصية، ومن الأسباب الطويلة وقصيرة الأمد».
هذا في ما يتعلق بتركيبة أو ضفيرة الأسباب، ولكنها في التحليل النهائي تصل إلى الأسباب الرئيسية: أن المؤرخ الحقيقي يشعر حينما يواجه بهذه اللائحة من الأسباب التي وصفها بنفسه يرغمه على أن يرتبها، أي أن يقيم نظاما للأسباب يحدد علاقتها ببعضها، وأن يقرر ربما السبب أو بعض الأسباب التي ينبغي اعتبارها في الملاذ الأخير، أو في «التحليل الأخير» السبب النهائي، أو سبب كل الأسباب.
وإذا كان التاريخ يخضع في توجهه إلى قانون ينتظم حركته، فإنه ليس على الطريقة «الحتمية» التي تخيلها (سيمون لا بلاس) أو (كارل ماركس)، قبل أن تأتي حملة الفيلسوف (كارل بوبر) لتقوم ضد الحتمية الماركسية، وذلك عندما كتب «المجتمع المفتوح وأعداؤه وكتاب فقر التاريخانية». فهناك قوانين نوعية هي أقرب إلى الشكل الاحتمالي منه إلى الشكل الحتمي الفيزيائي، بسبب تعقد وتشابك العناصر التي تدخل اللعبة الكونية. لذا فإن المؤرخ «إدوارد كار» يفضل استخدام مصطلح المنطق الداخلي للأحداث أكثر من وصفها بالقوانين، تجنبا لإشكالية القانون الفيزيائي.(4)
مراجع:
(1) مملكة الفوضى ـ محاولة في فهم آليات عمل المصادفة والسيبرنيتية ـ تأليف ليونارد راستريغين ـ ترجمة د. عبد الهادي عبد الرحمن ـ دار الطليعة بيروت ـ ص: 12. (2) مملكة الفوضى- ص: 13. (3) المصدر السابق- ص: 8. (4) ما هو التاريخ ـ إدوارد كار ـ ص: 99.
نافذة:
إذا كان التاريخ يعمل وفق سنن امتازت بالثبات ولم تكن الصدفة إلا ترسيم مناطق جهلنا وعدم تحكمنا فإن القرآن اهتم بفكرة القانون في محاولة منه لإنهاء فكرة المعجزة من العقل البشري





