
بقلم: خالص جلبي
أثناء زيارة الطبيب الإيطالي (فيساليوس) المولع بالتشريح بلاط الملك الإسباني، فيليب الثاني، في مطلع القرن السادس عشر (1562 م)، أصيب ولي العهد الوحيد (الدون كارلوس) بصدمة في رأسه أدخلته في غيبوبة، واستدعي الطبيب (فيساليوس) للاستشارة، فنصح بعمل لا يمكن وصفه في ذلك الوقت إلا أنه (مرعب) تخلخلت له مفاصل الملك! ماذا تقول؟ سأل الملك: أعد مرة أخرى؟ كان جوابه هادئا وقاسيا بدون أي مشاعر رحمة أيها الملك: ليس أمامنا لإنقاذ حياة ولي العهد إلا ثقب رأسه وربما بأكثر من ثقب، بواسطة (سفود) حاد للغاية، يحمى في النار حتى الاحمرار، ثم يدفع فيحفر به رأس ولي العهد الغالي في مكان الكدمة على الجمجمة، كما يثقب أي حجر قاس!
استشار الملك من حوله فأجمعت الآراء، خاصة القساوسة على أن ما يقوله هذا الطبيب هو الجنون بعينه، وإن كسر الجمجمة مثل البطيخة سوف يقود ولي العهد إلى الموت، وهمس البعض في أذن الملك: «إنه مجرم وليس طبيبا ولعل في قتله إراحة لعباد الله من هذا الهرطيق، الذي يزعم أن ما حدث لولي العهد لا علاقة له بالشياطين والجن وطلاسم السحر وعدوى الكواكب وتعكر مزاج المريخ. ويجب أن لا تنسى أيها الملك تاريخ هذا الطبيب الوقح قليل الأدب في حق عظماء الأطباء الذين سبقوه».
مرض تقديس آراء الأقدمين
كان فيساليوس قد انتقد الطبيب اليوناني (جالينوس) الذي استحالت آراؤه إلى نصوص مقدسة لا تقبل النقاش، وكان فيساليوس من خلال التشريح الميداني للبشر والحيوانات قد وجه ضربة علمية تهدم مزاعم جالينوس بتقوس عظام الفخذ، فهال أطباء إيطاليا ما قاله هذا الفتى المتهور، فأرادوا ترميم ما قاله جالينوس واعتبار كلامه صحيحا، بأن الذي حصل تغير طرأ على طبيعة الإنسان التشريحية، أما كلام جالينوس فيبقى صحيحا غير قابل للنقض، وكيف يدخل الخطأ على عقل رجل مثل جالينوس، أو يفوته مثل هذا الإدراك، وهذه مشكلة عقلية قديمة، وهي الحجة نفسها التي ساقها فرعون لموسى، حينما شرح له فكرة التوحيد فتعجب فرعون من ذلك وقال: هل يعقل أن تفهم أنت هذا الشيء ويفوت هذا الذين سبقونا (فما بال القرون الأولى؟)، فقال من دافع عن رأي جالينوس إنه كان محقا، ولكن الذي قلب طبيعة عظام الفخذين من التقوس إلى الاستقامة هو ارتداء الأوروبيين للسراويل الضيقة!
ويعلق المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) على هذه الواقعة في كتابه «قصة الحضارة» بأن (فيساليوس) وقع في موجة مدمرة من السوداوية، فقام بحرق موسوعته الطبية التي كان يقوم بتأليفها حينذاك حول كتاب الرازي المشهور في الطب (المنصوري)، وهو كتاب في عشرة مجلدات.
وأمام ضغط رجال الدين والمتملقين من حوله، مالت نفس الملك فيليب إلى الانتظار والترقب، وارتاح إلى نصيحة الكهنة وأطباء البلاط في العلاج. وابتدأ نشاط محموم في الاتصال بالجن والشياطين، ومشت جموع غفيرة في صورة مظاهرات صاخبة في العراء وهي تعوي وتضرب نفسها بالسلاسل والكرابيج، وهرعت فرقة ثالثة وهي تقرب الأضاحي للقديسة المعروفة في (بلد الوليد)، مدينة الملك الأموي القديمة التي تحولت إلى مزار لقديسين وقديسات بأسماء لا نهاية لها، ولكن حالة ولي العهد ازدادت سوءا.
ليس أمامنا إلا ثقب الرأس
كان الملك عاقلا وليس من ذوي العقول الحجرية؛ والأهم صحة ولي العهد التي تتدهور مع كل نصائح ومواعظ القساوسة، فهو يرى الواقع يتكلم بأوضح لسان؛ كل الطرائق التي لا تتعامل مع الواقعة بذاتها ومباشرة لن تفلح، فاستدعى الطبيب (فيساليوس) الذي أصر مرة أخرى على ثقب الجمجمة كمخرج وحيد لإنقاذ حياة ولي العهد. وتمت العملية في جو كبير من التكتم والسرية، وتم ثقب الرأس؛ فتدفقت إلى الخارج دماء سوداء وكثير من الصديد، وبدأت حالة المريض في التحسن، وخلال فترة قصيرة مشى وعاد إلى حياته الطبيعية.
نحن نضحك اليوم من الواقعة ونعرف أن سبب ما حصل لولي العهد هو النزف في الرأس، الذي يضغط الدماغ المحصور ضمن الصندوق العظمي، خلافا لبقية أنسجة الجسم التي تستطيع التمدد عبر الأمكنة المجاورة تحت الجلد أو في الجيوب المتاحة، ويبقى الدماغ الحساس حبيس هذا الصندوق مرتهنا لمصيره في حال النزوف أو التمدد من الوذام، فلا يجد الدم مهربا سوى الضغط على أمكنة الوعي والحس والحركة في الدماغ، فينهار صاحبها باتجاه الغيبوبة وتسبح الحياة في لجة عاتية من الخطر المحدق والموت المطوق.
إلقاء القبض على (فيساليوس)
يروي التاريخ أن الأطباء الإسبان رتبوا للطبيب فيساليوس مكيدة، عندما قام بإنقاذ امرأة تعسرت ولادتها فكادت تموت، فلما بقر البطن بشق السكين كادت تهلك لساعتها، فالعمليات كانت تجرى بدون تخدير سوى ضرب الرأس لإدخال المريض في غيبوبة أو الإمساك به، أو تجريعه كمية كبيرة من الخمور، ولكن السيدة الحامل رجعت إلى الحياة بالضربة الثانية، وتم استخراج الجنين على وجه السرعة، وإعادة خياطة البطن على جسم أقرب إلى الموت من الحياة (عملية قيصرية).
صعقت إسبانيا لجرأة وتهور هذا الجراح وتطوع الزملاء الحساد فوشوا به؛ فسارعت محاكم التفتيش الإسبانية الرهيبة إلى إلقاء القبض عليه، بدعوى أنه مشحون بقوى الشياطين، ولم يشفع له إلا إنقاذ (الدون كارلوس)، ولي العهد، ونجاة الأميرة من مخاض قاتل، ولكنها اشترطت عليه مغادرة البلد بدون عودة، مع توبة نصوح في القدس عند قبر المسيح.
كان فيساليوس قد انتقد الطبيب اليوناني (جالينوس) الذي استحالت آراؤه إلى نصوص مقدسة لا تقبل النقاش، وكان فيساليوس من خلال التشريح الميداني للبشر والحيوانات قد وجه ضربة علمية تهدم مزاعم جالينوس بتقوس عظام الفخذ



