الرأي

قطار الصخيرات ينطلق

جاء الجواب من المغرب، قويا وموحيا، ينسجم وتقاليده في رعاية أشكال الحوار وخطوات المصالحة، ومعاودة بناء الثقة بين الأطراف المتناحرة. وصدق بذلك رهان المجتمع الدولي والعواصم الوازنة التي رأت في اختيار منتجع الصخيرات لاستضافة الحوار السياسي الليبي مؤشرا إيجابيا، يعزز الدور الذي تضطلع به الرباط في البحث عن تسويات سلمية وفاقية لأنواع النزاعات الإقليمية، من دون التدخل في تكييف مواقفها أو الانحياز لطرف دون آخر.
حدث ذلك على الصعيد الإفريقي، عبر فض نزاعات بين الدول في غرب إفريقيا، على غرار الخلاف الموريتاني – السينغالي. وفي التعامل مع أزمة حوض نهر مانو، وعلى صعيد دعم قوات حفظ السلام وتعبيد الطريق أمام عودة الشرعية إلى مالي. وإذ يُنظر إلى النزاعات الداخلية بين الأطراف المتناحرة كأخطر ما يمكن أن تبتلى به أي دولة، فإن رعاية المغرب لخطوات المصالحة الليبية التي توجت بإبرام اتفاق أولي، بما اتسمت به من إصرار وواقعية وتطلع إلى المستقبل، شكلت تحولا جذريا عميقا في مسار الأزمة الليبية.
لا يعني ذلك أن كل شيء قد انتهى إلى إقرار الوئام الذي يخلص البلاد من أزمتها العصية التي تظافرت عوامل داخلية وإقليمية لإلهاب نارها المستعرة. ولكن الأهم رسوخ الاعتقاد بأن الحل السياسي الحقيقي، لا يمكن إلا أن يكون سلميا عبر منهجية الحوار، ولا يمكن أن ينفذه إلا الليبيون المعنيون أكثر من غيرهم بسبل إقرار المصالحة وطي صفحة النزاع الدموي، والبدء في تفعيل المسار الجديد لفترة انتقالية انتظرها الشعب الليبي بفارغ الصبر ومزيد من الأمل، على رغم كافة الظروف الحالكة التي أحاطت بها.
التوقيع بالأحرف الأولى من طرف فعاليات ليبية شاركت في جولات الحوار السياسي، لا يعني فرض الأمر الواقع على باقي الأطراف التي لازالت لديها تحفظات وتعديلات، غير أن قطار المصالحة انطلق ولا يمكنه العودة إلى نقطة البداية. فقد أبقت مسودة الاتفاق على بارقة الأمل أمام التحاق الأطراف التي لم توقع بعد. من منطلق أن المسودة إطار عمل قابل لاستيعاب أي مطالب أو تعديلات مشروعة، سيما وقد سبق لبرلمان طرابلس المنتهية ولايته أن أكد أنه لم يبق إلا نقاط خلافات ضئيلة، وأن هناك قرارا مبدئيا بالذهاب نحو المصالحة التي تحفظ شرف الأطراف كافة.
في أي مفاوضات ليس هناك تسوية ترضي كل النزعات، هناك فقط، وهذا هو الأهم، إرادة نحو تغليب منطق الحوار للتوصل إلى صيغة وفاقية. فالحرب الدائرة بين الفصائل لم تنته إلى منتصر ومنهزم، أي أنها تختلف في طبيعتها عن الحروب التي يفرض من خلالها الطرف المنتصر شروطه على المنهزم. ينضاف إلى ذلك أن الرابح من أي تسوية سلمية هو الشعب الليبي الباحث عن متنفس سلام وأمن. لكن دور الأمم المتحدة لم يكن يتمثل في فرض تسوية، بل اقتراح ملامح برنامج تسوية، لا يكون مكتملا ونهائيا، إلا بعد تصديق كل الأطراف عليه، وبالتالي فالليبيون أنفسهم هم الذين صاغوا إطار تسوية خلافاتهم، في ضوء الدور الذي قامت به البعثة الأممية.
أبعد من التوصل إلى اتفاق مبدئي أن الأمم المتحدة هي من رعى أشواط المفاوضات التي ميزتها خلافات حادة، وكادت في العديد من المرات أن تصل إلى الباب المسدود، وبالتالي فإن ميزة المسودة القابلة للتعديل أنها ذات بعد دولي، وأن استضافة المغرب، كعضو فاعل في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد المغاربي، لجولات الحوار السياسي كان في حد ذاته عنصرا مساعدا يسمح لليبيا بمعاودة الاندماج في المجتمع الدولي. ذلك أنه على رغم أن الحكومة والبرلمان المنبثقين من طبرق حظيا باعتراف دولي يرادف الشرعية، فإن المفاوضات تحاشت استبداد الطرف الشرعي بتصوره، وانطلقت من واقع الندية السياسية، إلى درجة أن برلمان طرابلس اعتبر الكفة في بعض الأحيان تميل لفائدته، وتلك من مميزات شروط المفاوضات التي حرص المغرب على ضمان نجاعتها، من دون أي خلفية مسبقة.
التوقيت وحده يشير إلى أن التونسيين بصدد بناء جدار عازل يقيهم المخاطر الإرهابية القادمة من تغلغل تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية في ليبيا. كما توضح أن الجزائريين لم يكونوا مرتاحين لنجاح مفاوضات الصخيرات، لاعتبارات تخص نظرتهم إلى الأزمة الليبية، من منطلق الهيمنة وفرض الشروط، وبذلك يكون المغرب أفسح المجال أمام الليبيين للاندماج في محيطهم الإقليمي، في إطار الاتحاد المغاربي  الذي تضرر جراء الأزمة الليبية، بعد أن اعترته شظايا المواقف السلبية المتحيزة للجزائر. ومن خلال هذه العودة التي يفترض أن تتم على مراحل، بعد تخلص الليبيين من تداعيات تناحرهم، سيتأتى لدولة ما بعد سقوط نظام العقيد القذافي أن تجد لنفسها مكانا تحت الشمس.
وطالما أن مناهضة التطرف والإرهاب كانت في مقدمة الأسباب التي دفعت الليبيين إلى تحكيم الواقعية والعقلانية. فالبداية الحقيقية ستكون عبر التحاق كل الأطراف بقطار الحرب المفتوحة على الإرهاب أولا، من دون إغفال طمأنة الشارع الليبي إلى مستقبل آخر غير ما يعيشه وما يعانيه حاليا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى