
يونس جنوحي
الحاضر أعلم الغائب، هناك خطب ما يجري في طنجة هذه الأيام. الظرفاء يقولون إن درب عمر، الشهير في الدار البيضاء، انتقل أخيرا إلى المدينة العتيقة. صينيون في كل مكان. لكن بدل أن يحملوا كراطين السلع أو يعرضوها للبيع، ها هم يحملون آلات التصوير ويتبعون مشاهير «الواقع» الصيني وينقلون مغامراتهم في بلاد ابن بطوطة، على بُعد أمتار فقط من ضريح هذا الأخير..
يجري حاليا تصوير حلقات برنامج لتلفزيون الواقع، يحظى بشعبية كبيرة في الصين ويتابعه مئات الملايين عبر ربوع البلاد. دعاية سياحية مجانية لطنجة. بائع «الديطاي»، الذي جرب الهجرة السرية نحو إسبانيا تسع مرات وقرر ألا يُبحر في المرة العاشرة ويستقر نهائيا في طنجة، يتساءل أين سنضع هؤلاء الملايين من المتابعين الصينيين إن هم قرروا زيارة طنجة مباشرة بعد بث الحلقة الأخيرة من البرنامج؟!
الحقيقة أن الرجل على حق. مدينة مقلوبة هذه الأيام بأشغال إصلاح الأرصفة، وعرقلتها التي لا تنتهي، يزداد فيها الازدحام المروري يوما بعد يوم وكأنها تضيق بأهلها.. أو سياراتهم على الأصح.
المدينة العتيقة، التي عرفت أهم فترة ترميم وإصلاح في تاريخها على الإطلاق، قبل خمس سنوات، سرعان ما عادت إلى احتواء أنواع البؤس القديمة. بياض الجدران التاريخية تحول إلى الرمادي، وصارت تعلوها عبارات السب والقذف والتشهير بالعشاق، أو الأحرف الأولى من أسمائهم. القطط ترفض أكل بقايا السمك، وتتركها لتتعفن في المنعرجات والمداخل التي يفترض أنها تاريخية.. العلب الفارغة في كل مكان، وعددها يفوق عدد المنازل المغلقة..
قبل أسابيع على بداية تصوير برنامج الواقع الصيني، كانت هناك مساع يقودها أباطرة العقار والسماسرة لإزاحة مشهد بانورامي من الوجود.. كل شيء يهون في سبيل هدم القديم و«خلق» مساحات أرضية جديدة لتشييد البنايات الصماء.
لطف الله وحده حال دون أن تتحقق الكارثة، وبقي المشهد القريب من باب البحر، والمطل على «البلايا»، على مرمى البصر.
ماذا وقع؟ جاء فريق التصوير الصيني، ووقف المُخرج مشدوها من جمال المنظر وقرر أن يصور الموسم المقبل في المدينة العتيقة!
المشاركون في البرنامج مشاهير صينيون، لديهم جيوش حقيقية من المتابعين. ويوميا يصورون أجواء مقامهم ومغامراتهم ويضعونها على المنصات الصينية. وعدد المشاهدات التي يحصدونها يوميا يفوق أعداد مشاهدي الحلقات الأخيرة من المسلسلات المُدبلجة مجتمعة.
تصوروا الفرصة التي كانت لتضيع على السياحة الداخلية في واحدة من أعرق المدن المغربية لو أن المسؤولين سمحوا بهدم وإقامة منشأة إسمنتية قرب باب العصا الشهير وحذفوا المشهد الذي يؤثثه مقهى «الشريفة»..
المقهى، للذي يروج لما تبقى من ثقافة في هذا البلد ولا تعرفه الوزارة، يحمل اسم رواية عن شخصية طنجاوية صاحبها هو مالك المقهى. يوسف شبعة، الذي كان والده رحمه الله من رواد فرقة المسرح المغربية الأولى التي لعبت في مسرح «سيرفانتيس».. أول مسرح في القارة الإفريقية!
يصارع شبعة كل يوم ليبقى المقهى الصغير مفتوحا أمام فضوليي الأدب الذين صاروا غرباء، ومفتوحا على المشهد البانورامي إياه.
المشاركون الصينيون شربوا الشاي الطنجاوي في المقهى الصغير وغرقوا بين رفوف مكتبته الصغيرة، ولو عرفوا مقدار ثقل الرحى التي تتربص بكل ما هو جميل في هذا البلد لهدمه، لما صوروا حلقة واحدة هناك.. كانوا ليكتفوا بالسلام على ابن بطوطة، أول مغربي زارهم قبل سبعة قرون، ويرحلوا نحو بلد آخر.. لكنها طنجة، تُكبل كل من زارها ولا تتركه يغادر إلا بعد أن تتأكد من أنه استوى تماما.. رغم أنف سفراء الإسمنت المسلح!





