حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

أحبيني بلا عُقَد

 

 

أهلا بكم في سيرك القرن الواحد والعشرين، حيث لم يعد الرجل والمرأة كائنين طبيعيين يلتقيان، يتعارفان ويقعان في الحب، بل أصبحا مشروعين تنمويين، ورشتي عمل متواصلتين في انتظار أن يُباركهما «قانون الجذب» ويوقّع عليهما مدرب حياة في ندوة مكتظة برواد «الاستحقاق».

لم يعد الحب عاطفة بشرية، بل صار معادلة حسابية، إذا كنتِ أنثى، عليكِ أن تفعّلي «طاقة الأنوثة» وتتركي مساحة لـ«غريزة الصياد» عند الرجل كي يطاردك كما يطارد الأسد غزالا في سافانا افتراضية. أما إذا كنتَ رجلا، فعليك أن تُظهر «طاقة الذكورة» المتوازنة: صلابة مع حنان، حزم مع رومانسية، قوة مع ابتسامة باردة. باختصار، أصبحنا أمام برنامج تنموي عاطفي بدفاتر تحملات صارمة.

فكيف أصبحت المرأة مشروعا هندسيا معقدا؟ تخيّلوا أن الحب صار عملية معمارية دقيقة: لا تبادري بالاتصال، لأنك إن فعلتِ قتلتِ جينات الصياد داخله. لا تبدي اهتماما مبالغا فيه، لأنك ستسقطين في خانة «المُلاحِقة اليائسة». لا تلعبي دور الباردة، لأنك ستُصنّفين «ملكة جليد» لا تصلح للحب أو الاهتمام. لا تكوني صريحة أكثر من اللازم، فالصراحة تُعتبر «طاقة ذكورية سامة». باختصار: عيشي في حالة «لا حياة ولا موت»، معلّقة بين الكيد والمكر والانتظار، لتبرهني عن أنكِ أنثى متوازنة تليق بشهادة ISO في «طاقة الأنوثة».

أما الرجل، المسكين، فصار بدوره مشروعا إصلاحيا، لا تكن لطيفاً أكثر من اللازم، فسيُقال عنك ضعيف. لا تكن قاسيا أكثر من اللازم، فستُتهم بالسُّمّية. لا تظهر غيرة مفرطة، فهي «نقص في الاستحقاق». لا تتجاهلها طويلا، وإلا صارت ضحية «تلاعب نفسي».

عليه أن يكون فارسا على حصان أبيض، طبيبا نفسيا مجانيا، وأميناً على أسرارها العائلية، وفي الوقت نفسه مقاتلاً جاهزاً لحمايتها من ذئاب الليل. باختصار: الرجل المثالي هو مزيج غريب من سوبرمان وبوذا ونزار قباني.

وكي تكتمل المهزلة، يأتيك «قانون الجذب». فبدلاً من أن تُصارح الطرف الآخر بمشاعرك، يجلس كل منكما على سريره ليلاً يغمض عينيه ويتمتم: «أنا أستحق الحب. الكون سيبعثه لي. طاقة الأنوثة والذكورة ستتوازن. الشريك المناسب في الطريق».

وفي الصباح، بدل أن تجد رسالة «صباح الخير»، تجد إعلاناً على فيسبوك لدورة مدفوعة بعنوان: كيف تجذب فارس أحلامك في 21 يوماً؟ إضافة إلى رسالة نصية من شركة الاتصالات تخبرك أن عليك دفع فواتيرك المتأخرة.

يدخل على الخط فريق آخر، بعض النسويات اللواتي يرين في أي خضوع عاطفي جريمة ضد حقوق المرأة. بالنسبة لهن، أن تحب المرأة رجلاً قوياً حنوناً حازماً هو سقوط في عبودية عاطفية. لكن الحقيقة أن هناك فرقاً كبيراً بين الخضوع الطوعي الجميل القائم على الحب والاحترام، والخضوع القسري الذي يقوم على الإهانة والاستغلال.

المرأة التي تسمح للرجل بأن يقود في بعض المواقف ليست أقل شأناً، بل قد تكون أكثر ذكاءً. فهي تدرك أن العلاقة ليست حلبة مصارعة بين ذكر وأنثى، بل هي تعايش إيقاعي، أحياناً يقود هو، وأحياناً تقود هي، والنتيجة في النهاية موسيقى متناغمة لا نشاز فيها.

المفارقة الساخرة أن كل هذه الخطابات لم تُلغِ حقيقة واحدة، النساء يحببن الرجال الأقوياء الحنونين الذين يسعون وراءهن، والرجال يحبون النساء اللواتي يتركن لهم مساحة للمطاردة لكن دون أن يتحول الأمر إلى لعبة استنزاف نفسي. إنها معادلة قديمة قدم الإنسانية، فقط نحن قمنا بطلائها بألوان التنمية البشرية، وأضفنا إليها مصطلحات مستوردة من كتب مترجمة بعناوين براقة. الحقيقة أن الحب أبسط من كل هذا، كلمة صادقة، مبادرة حقيقية، ومزيج عفوي من الغيرة والحنان والضحك المشترك.

الحب اليوم يشبه تلك الهواتف الذكية التي تُباع بآلاف الدراهم وتأتيك مليئة بتطبيقات لا تحتاجها. كل ما تريده فعلياً هو أن تتصل وتُرسل رسالة، لكنك تجد نفسك مضطراً لتعلّم كيفية استخدام 100 إعداد لا فائدة منها.

الرجل والمرأة لم يعودا بحاجة إلى نصائح من نوع: «افعلي كذا ليطاردك» أو «تجاهلها لتشتاق إليك». ما نحتاجه هو العودة إلى البديهيات، أن تحب بصدق، أن تعطي بصدق وأن تتوقف عن التعامل مع العلاقة كأنها مشروع تخرج في شعبة إدارة المال والأعمال. فالمرأة ليست غزالاً يُطارَد، والرجل ليس أسداً يبحث عن فريسة. نحن ببساطة كائنات بشرية تبحث عن الأمان والحب، لكننا قررنا أن نُعقّد الأمر لأننا نعشق الاستعراض الفلسفي والتنمية البشرية الفارغة. وبين كل هذه النصائح والدورات والورشات، هناك سر واحد للحب الحقيقي، كن إنسانا، ودع عنك بقية المسرحية.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى