أشهرتُ سلاحي في وجه الوزير امحمد الدويري لأنه رفض تنفيذ طلب رسمي من ولي العهد

يونس جنوحي
في سنة 1956 دائما عشتُ في قلب أحداث لم أتصور يوما أنني سأحضرها أو أساهم فيها. فقد وجدتُ نفسي في قلب زوبعة حكومية مرتين. مرة مع حكومة البكاي الأولى التي عينت بين 7 دجنبر 1955 و25 أكتوبر 1956، والتي تلتها حكومة البكاي الثانية، بعد التعديل الحكومي وازدياد المقاعد الوزارية لصالح حزب الاستقلال، واستمرت إلى غاية أبريل 1958.
أما الأزمة الثانية، التي عشتها عن قرب، فكانت في حكومة أحمد بلافريج، التي عينت في ماي 1958 واستمرت إلى دجنبر من السنة نفسها.
وجها لوجه مع امحمد بوستة
لم تكن تربطني بسي امحمد بوستة أية علاقة أو سابق معرفة، باستثناء أنه ينتمي لحزب الاستقلال، الحزب الذي تربيتُ في صفوفه منذ طفولتي المبكرة سواء في مدينة الجديدة، أو فضالة ثم في الكاريان سنطرال بالدار البيضاء.
ألبسني ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، البذلة العسكرية للجيش الملكي، وصرت رسميا في جهاز الجيش، لكنني لم أذهب إلى أي ثكنة عسكرية أو يتم إلحاقي بأية فرقة، بل بقيتُ وقتها، بعد واقعة تطوان مع محمد بوضياف، ألازم ولي العهد.
في تلك الظرفية التاريخية من سنة 1956 دائما، كان امحمد بوستة وزيرا للتجهيز في حكومة البكاي ولد امبارك الهبيل، وهو المنصب الذي استمر فيه بعد التعديل الحكومي، ثم احتفظ به في حكومة بلافريج.
جاء عندي إلى الرباط مجموعة من المواطنين الإسبان، كانت لدي بهم سابق معرفة في تطوان بحكم أنني كنت هناك مكلفا بالاستعلامات. وهؤلاء الإسبان أسدوا لنا نحن اللاجئين خدمات جليلة، من بينها أنهم كانوا يزودونني بالمعلومات التي استعملناها لصالح المقاومة المغربية وأعطونا السلاح في أكثر من مناسبة.
هكذا كنت أحس بأنني مدين لهم.
هؤلاء الإسبان جاؤوا إليّ بعد الاستقلال، بعد أن علموا أنني أصبحتُ أرافق ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وعرضوا عليّ قضيتهم.
كانوا يرغبون في الاستثمار في المنطقة الشمالية، ولديهم دراسة مشروع لإنشاء معمل مهم في ناحية تطوان لتدوير مادة «الحْلْفة» الطبيعية التي يستعملها الأهالي، خصوصا في إقليم الشاون والنواحي، في حشو الأثاث والأفرشة، وتطويرها إلى نوع من «الورق»، ويُعاد بيعها في السوق المغربي، بعد أن كانت العادة، في السابق، أن شركات إسبانية تشتري الحْلفة من الأهالي وتُصدرها إلى إسبانيا، ثم يُصنع منها «الورق» ويُعاد بيعه للمغرب.
لكن هؤلاء الأصدقاء الإسبان صادفوا بعض الصعوبات الإدارية. فقد كانت الحكومة المغربية حديثة التشكيل ومشروع مماثل يحتاج إلى بعض الوقت لتنفيذه.
ومن جملة ما أكّد عليه هؤلاء الإسبان أنهم سوف يُشغلون رقما مهما من العمال المغاربة في ناحية تطوان وسوف يساهمون في النهوض بالاقتصاد.
منحوني ملف هذا المشروع، واتجهتُ صوب عبد الكبير الفاسي، بحكم العلاقة التي تربطني به منذ فترة اللجوء في تطوان، وكان استقلاليا كبيرا وغنيا عن التعريف، واستشرتُه في الموضوع.
وجدته يستعد للسفر في اليوم الموالي، وعرضتُ عليه المشروع واستشرتُه، قبل أن أعرضه على ولي العهد.
اللقاء مع الوزير لم يكن بالسهولة التي توقعتها. فقد كنت أتصور أن مشروعا على هذا القدر من الأهمية، ومع المصلحة التي سوف يجلبها، خصوصا وأنه سيوفر مادة الورق محليا، ولن تكون هناك حاجة لاستيراده من إسبانيا، سيحظى بالاهتمام.
ذهبتُ إلى ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، وعرضتُ عليه المشروع، وفعلا استدعى، رحمه الله، عبد الرحمن الكوهن، الذي كان يشتغل في ديوانه، وطلب منه إحضار ورقة وكتب بخط يده توجيها إلى وزير التجهيز لكي يعتني بالموضوع ويطلع على ملف الدراسة الذي كنت أحمله.
وفعلا توجهت إلى مقر الوزارة ومعي الرسالة التي تحمل شعار ديوان ولي العهد وتوقيعه.
كنت أرتدي لباسي العسكري الرسمي، بذلة الجيش الملكي المغربي، ومعي سلاحي في المكان المخصص له، إلا أن الوزير تركني أنتظر مدة طويلة ولم يستقبلني، رغم أن السكرتارية أخبروه بأنني مبعوث من طرف ولي العهد.
عندما فقدتُ صبري، سألتُ الشاوش عن سر تأخر استقبالي من طرف الوزير الدويري، فقال لي إن الوزير يقرأ الجرائد، وتأكدتُ من كلامه أنه لا يستقبل أحدا في مكتبه خلال تلك الأثناء قصدتُ، ولم يكن لديه أي اجتماع.
استشطتُ غضبا، فقد أحسستُ بالإهانة وقصدتُ رأسا باب مكتبه مباشرة، وفتحته واقتحمتُ خلوته ووجدته فعلا يشرب الشاي ويطالع الجرائد.
استنكر امحمد الدويري سلوكي في البداية، لكني وضعتُ الورقة فوق مكتبه وانتظرتُ إلى أن طالعها وانتهى من قراءتها وأجابني ببرود، وتلفظ بكلام لا يليق بمقام ولي العهد، في ما معناه أنه يرفض تنفيذ مضمون الرسالة، رغم أنها كانت رسمية، وتحمل ترويسة ديوان الأمير وتوقيعه الشخصي. بل ورفض الاطلاع على المشروع ودفع الأوراق في وجهي.. فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أشهر سلاحي في وجهه، فرفع يديه في الهواء محاولا تهدئة الوضع.
طلبتُ منه أن يُعيد إليّ أوراقي، وغادرتُ مكتبه غاضبا، غير أني لم أتوقع أن الأمر سيتطور، إذ أن الدويري اتصل بزملائه في الحكومة، وصمم الاستقلاليون، الذين كان يتزعمهم أحمد بلافريج، على الاحتجاج عند الملك محمد الخامس.
ما أن غادر الوزراء مكتب الملك الراحل محمد الخامس، حتى اتصل رحمه الله بولي العهد ليتبين منه ما وقع بالضبط.
والحقيقة أن الأمير مولاي الحسن لم يكن لديه علم بالتطور الذي عرفته القضية، ولم يكن اطلع بعدُ على ما دار بيني وامحمد الدويري.
عندما ذهبتُ إلى ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، أخبرتُه بما قاله الدويري في حقه وقلتُ له إنني لم أتقبل الإهانة التي وُجهت له على لسان الدويري.
طلب مني الأمير مولاي الحسن ألا أتحرك من مكاني، وغادر إقامته وبقيتُ ومعي عبد الرحمن الكوهن.
وأنا على ذلك الحال جاء الدكتور عبد الكريم الخطيب، ولم يخبرني بأي شيء وبقي ينتظر معنا.
بعدها بمدة قصيرة جاء الأمير مولاي الحسن، على متن سيارته، ولمحتُ الملك الراحل محمد الخامس جالسا إلى جواره في المقعد الأمامي.
توقف الأمير أمامنا وأمرني أن أركب والدكتور الخطيب وامتثلنا.
ركبتُ وسارت السيارة لبعض الوقت والصمت سيد الموقف، إلى أن تكلم الملك محمد الخامس وقال لي إن ما أقدمتُ عليه تسبب في كارثة حكومية وأن الاستقلاليين يريدون الاستقالة من الحكومة احتجاجا على سلوكي مع الدويري.
هنا تدخل ولي العهد، الأمير مولاي الحسن، وأمرني أن أحكي لسيدنا ما وقع وأن أنقل إليه جواب الدويري على رسالة ولي العهد. وعندما سمع الملك محمد الخامس جوابي، قال لي رحمه الله، بلطف الوالد، إن الأمور لا تُحل بذلك الشكل.
اغرورقت عيناي بالدموع، ولم أشعر إلا وأنا أخرج مسدسي من مكانه وأرميه بين يدي الملك محمد الخامس وقلت له: يا سيدنا إذا كان موتي سيحل هذه المشكلة، فها هو مسدسي. فما كان من جلالته إلاّ أن أزاح المسدس وبدأ يخاطبني بنبرة عطف ويُهدئ من روعي، فسني وقتها لم يكن يتجاوز 24 سنة، ولم يكن لدي إدراك سياسي ولا وعي بعواقب الأمور، ناهيك عن أن السياق في ذلك الزمن كان غير السياق. وانتهى الموقف بعبارة عفوية نطقتُها في حضرة الملك، لا أدري إلى اليوم كيف أفلتت مني: «فين دبّرتو على بحال هاد الوزراء نعام سيدي»، وابتسم رحمه الله ابتسامة خفيفة، وطُويت تلك الصفحة.
هذه الواقعة تعكس ذلك الجانب الخفي من الرواية السياسية التي جرى تداولها بكثرة عن الصراع بين قدماء المقاومة وسياسيي حزب الاستقلال، والتي أدت إلى انفجار الأوضاع في وقت من الأوقات. والحقيقة أن ما وقع لم تكن له أية علاقة نهائيا بهذا الصراع بين جناح المقاومة وبعض الأسماء في حزب الاستقلال، بل كان فتيله موقف سي امحمد الدويري من رسالة ولي العهد، لا أقل ولا أكثر.
أما الواقعة الثانية فتحمل جانبا من الطرافة، لكنها كادت بدورها أن تتسبب في أزمة حكومية كبيرة.