إنها المأساة..
صورتان تستحقان أن نتوقف عندهما مليا لأخذ العبر قبل أن نضطر إلى التوقف النهائي ويصيبنا الشلل. الحالة الأولى تتعلق بارتفاع ديون المغرب بالخارج، والثانية تتعلق بغياب سياسة مالية واضحة لدى الحكومة.
يحب الكثيرون تشبيه العدالة والتنمية المغربي بنظيره التركي، لكنهما للأسف حزبان لا يشتركان إلا في الاسم ويختلفان في كل شيء. كان حريا بالجانب المغربي على الأقل أن يستفيد من التجربة التركية في ما يتعلق بخطة تقليص الديون ثم إلغائها تماما، لكنه اكتفى بالاستفادة من تركيا من خلال إرسال أبناء الحزب والمتعاطفين معه للدراسة في المعاهد التركية، حتى يكون بمقدورهم التقاط الصور هناك وجلب الحلويات التركية للعائلة والأصدقاء في العطل الصيفية.
ومشكل المغرب مع الدول الأخرى في ما يخص البعثات الدراسية قائم منذ القدم.. منذ الأيام التي كان فيها الطلبة المغاربة يرحلون إلى فرنسا بسهولة تامة لإتمام دراستهم هناك بصفر درهم، مستفيدين من المنح الدراسية ومن تشجيع الدولة. لكن المغرب لم ينجح وقتها للأسف في تكوين قاعدة مهمة من النخب، ببساطة لأن أغلب الذين ذهبوا للدراسة، كانوا يحلمون فقط بالعودة إلى المغرب للحصول على وظيفة واعترف أكثرهم بأنهم تلقوا وعودا من عائلاتهم ومعارفهم لتمكينهم من وظائف مهمة في وزارات ومؤسسات عمومية. وبما أن الوظيفة مضمونة بعد العودة إلى المغرب، فلا ضرورة إذن للدراسة، وهكذا تحولت «دار المغرب» في فرنسا في فترة من الفترات إلى ما يشبه «خيرية» ينام فيها الطلبة ويمضون الوقت في لعب «الكارطة» و«ضامة» وتبادل النكت، بدل حضور المحاضرات الجامعية والدروس.
في المقابل، كانت اليابان بدورها قد أرسلت طلبتها إلى فرنسا لمتابعة الدراسة العليا، فعادوا محملين بمشاريع واقتراحات مولتها الدولة وهي ما جعلت اليابان تُقلع اقتصاديا. ونحن حصلنا بالمقابل على وزراء وأطر يلعبون «الكارطة» جيدا ويقمّرون بالمستقبل بكل شجاعة.
ثم ظهرت موجة دراسة الطب في روسيا، وهكذا أصبحنا نرى شبانا يركبون الطائرات إلى موسكو فور حصولهم على الباكلوريا وكأن المغرب يفتقر لمراكز التكوين في هذا التخصص. وفي الأخير يُمنع الطلبة المغاربة من مزاولة المهنة في روسيا، ويعودون إلى المغرب لفتح العيادات والمصحات الخاصة ليمارسوا طب الأسنان على طريقة «أطباء» الأسواق الأسبوعية، حيث لا يحتاج الطبيب إلا لوزرة بيضاء وكُلاب لنزع الأضراس.
المغرب افتقر للتضحية في الوقت الذي كان لزاما على أجيال أن تضحي من أجل الوطن. الكل كانوا يخططون لأقرب الأمور لأرنبة الأنف. لا أحد فكر في ما ينتظرنا من منعرجات. كبرنا ونحن نرى الدولة عبارة عن جدار مليء بالحفر، حيث يتعين عليك كي تكون ناجحا في الحياة أن تدفن نفسك في حفرة من ثقوبه الكثيرة حتى تضمن أجرة من جيب الدولة في آخر الشهر.
لماذا لم يقدم لنا أحد الخبراء دراسة لتقليص ديون الدولة وكبحها. الأرقام تعطي بما لا يدع مجالا للشك، صورة قاتمة جدا عن مستقبل مديونية المغرب، ولا بد أن الوضع سيكون أسوأ مما كان عليه أيام السكتة القلبية التي تحدث عنها الجميع في نهاية التسعينات. تقليص ديون الدولة يتطلب منا جميعا الإخلاص في العمل وتقليص نفقات الدولة التي لا تعود بأي نفع على المواطن. ميزانيات تُسرق يوميا باسم ترميم «الزليج» وسفريات المدير ومصاريف الشاي والحلوى في الاجتماعات التي لا يقررون فيها أي شيء، بالإضافة إلى رواتب البرلمانيين والوزراء الذين أصبح عددهم أكثر من الهم على القلب. والأهم، افتقار الحكومة لرؤية واضحة للحد من المديونية. كل حكومة تقذف كرة المسؤولية عن الكارثة إلى أخرى، وكأن الأمر يتعلق بكرة من اللهب. أليس من المخجل أن تستغل الأحزاب وصولها إلى الحكومة، لكي تغرس جذورها في الإدارات والمناصب والمؤسسات، بما فيها مراكز الدراسات والجمعيات، بدل العمل لتطوير البلاد؟
أول خطوة لمواجهة مشاكل الدولة هو النظر إليها بدل النط فوقها، وتضخيمها. أما النخب المقبلة، فإنها بكل سعادة، تلتقط الصور مع ملصقات أردوغان في اسطنبول. حيث يعتقدون أن اسم الحزب وحده كاف لتحقيق العدالة والتنمية.. إنها مأساة فعلا.