الرأي

الحياة بقلوب من معدن التيتانيوم (1)

خالص جلبي
كان (بيرني كلارك Barney Clark) البالغ من العمر 61 سنة في سكرات الموت؛ فقلبه عليل ويحتاج إلى الاستبدال، ولكن ما من قلب جاهز أو متبرع يفديه؛ فالمسألة تدور حول استبدال القلب السقيم بقلب سليم.
كان (بيرني) طبيب أسنان متقاعدا يعيش في مدينة (سياتل SEATTLE)، وأمام التهديد بالموت قرر في 2 دجنبر 1982م أن يخضع لأول تجربة زرع قلب صناعي من معدن من نوع (جارفيك سبعة Jarvic 7). وأجرى الدكتور (ويليام دي فريس William De Vries) العملية له، وكان القلب الصناعي الأول من نوعه في تاريخ الطب الذي يزرع، بعد أن ينتزع القلب الأصلي من تجويف الصدر نهائيا ويستعاض بمضخة معدنية، ولكن مشاكل جمة أحاطت بظروف زراعة هذا القلب المعدني؛ فحجمه كبير بقدر رأس جنين، بالإضافة إلى أنابيب بطول مترين تبرز من صدر المريض، وتقيد حركته بربطه إلى جهاز ضغط (Compressor) بحجم براد بجانب سريره.
كانت الماكينة تبرد القلب ولا تكف عن اللغط (بلوب… بلوب)، ولكن هذا الحماس للحلم الجديد بتركيب قلب من معدن سرعان ما تحول إلى كابوس؛ فالمريض (كلارك) الذي عاش 112 يوما بعد العملية، مات مائة ميتة بين نوبات الرعب والهلوسة وهجمات التشنج والإحباط والإنتانات والدخول في فشل كبد وكلية وتعرض متكرر لتجلط الدم بحواف القلب الصناعي وجدرانه، وفي نهاية دوامة الرعب والاختلاطات تضرع إلى أطبائه أن يخرجوه من العذاب إلى راحة الموت.
إن أعظم ما يهدد الأطباء بزرع الأجسام الغريبة، سواء القلب المعدني أو المواد الشريانية الصناعية من نوع الداكرون أو التفلون، هو الإنتان أي الالتهاب، ويعتبر التهاب الشرايين عند جراحي الأوعية الدموية كابوسا لهم ومقتلا للمرضى، ولقد رأيت ذلك بعيني وأعرف هذا الخطر جيدا.
بعد هذا المريض قام الجراح (دي فريس) بإجراء أربع عمليات مشابهة على مرضى آخرين، انتهت كلها بفاجعة درامية. كان أحدهم يتمنى الموت ولا يأتيه، حتى وضعت الاختلاطات حدا لحياتهم. كانوا أحياء ولكن أقرب إلى الموت، بين هدير الآلات والسجن في غرفة والارتباط بحبال والتقييد بأنابيب موصولة بأجهزة لا فكاك منها أو خلاص، بالإضافة إلى مجموعة من الاختلاطات المتلاحقة تدخلهم في محنة خلف أخرى.
انتهت التجارب بتحريم الدوائر الطبية الأمريكية للعلاج التي يرمز لها بـ(FDA) لتجارب من هذا النوع. وكان ينقل عن المرضى قولهم: (هل تعرفون ما هو أسوأ من الموت؟ إنه زرع جهاز جارفيك سبعة)، أما مجلة (نيويورك تايمز) فقد وصفت الجهاز بأنه (دراكولا). وتعود كلمة دراكولا إلى قصة من أصل روماني لأمير مات، ولكن شبحه كان يتجول في الليل فينقض على الضحايا ويمتص دماءهم، وكل من لعق دمه حوله إلى دراكولا جديدة، وقد مثلته هوليوود لفيلم لا يوصف بالجيد.
وعقبت المجلة بقولها: (إن الجهاز لا ينقذ الحياة، بل يطيل أمد المعاناة).
ويبدو اليوم بعد مرور 20 سنة على التجربة أن (دراكولا) بعث من مرقده مجددا، ففي مطلع يوليوز 2001 م تم زرع قلب صناعي من خليطة معدنية في صدر مريض، لم يشأ الإفصاح عن اسمه ويضرب بمعدل 120 ضربة في الدقيقة، بعد أن انتزع قلبه الأصلي من صدره. تم زرع القلب الصناعي على يد الفريق الجراحي (لامان جراي Laman Gray)
و(روبرت دولينغ Robert Dowling)، في مشفى (لويس فيل) بولاية كنتكي الأمريكية. وأخذ الجهاز اسم (أبيو كور Abiocor) ووزنه 900 غرام وحجمه يتسع بسهولة في صدر رجل مكون من معدن التيتان ومادة البلاستيك، بحيث يتمكن الذين أشرفوا على الموت من متابعة حياتهم إلى أجل مسمى، ريثما يتهيأ لهم قلب طبيعي من صدر مريض مصاب بموت الدماغ.
ولقد تناهت إلى الإعلام فكرة بسيطة عن الرجل الذي أجريت له العملية بنجاح وخرج من العناية المشددة، واجتمع بأفراد عائلته بوعي كامل وصحة طيبة بدون مضاعفات، وعرف عن المريض أنه رجل في عمر الستين وأن عملية سبع ساعات تكللت بالنجاح، بعد أن جرب الفريق الطبي الجهاز لفترة أشهر على 45 عجلا، تم التضحية بهم لاحقا، وعملت القلوب الصناعية عند العجول بإتقان.
لقد استمر تطوير الجهاز لفترة عشرين عاما من أجل تجاوز جيل القلب الصناعي من نوع (جارفيك 7)، ويقول (ديفيد ليدر مان David Lederman)، مؤسس ورئيس شركة (أبيو ميد Abiomed)، من (دينفر Denver) في ولاية (ماساشوستس Massachusetts) بالولايات المتحدة، إنه يتطلع إلى بيع المئات والآلاف من الجهاز الجديد. و(ليدر مان) هذا هو بالأصل مهندس في ملاحة الطيران والفضاء الخارجي، قبل أن يعكف على عمله الجديد ويقول: (يجب أن لا يموت أحد اليوم لأنه يفتقد قلبا للزراعة). وبمقارنة جهاز (الأبيوكور) مع الجهاز القديم (جارفيك 7) يبدو واضحا مدى التطور الطبي في صناعة الأجهزة، فهو أولا يخفق بدون أي صوت إلى درجة سماعه بصعوبة بالسماعة الطبية، مما يخفف على المريض سماع مائة ألف ضربة في اليوم والليلة، بالإضافة إلى عدم وجود أي أنابيب أو أسلاك تخرج من البطن أو الصدر، مما يؤمن حرية حركة المريض، وليس هناك سوى بطارية معلقة على الخصر تؤمن تغذية الجهاز كهربيا باستمرار بنهاية من فوق الجلد، بحيث يؤمن تحريضا كهربيا للجهاز من فوق جلد البطن، فضلا عن وجود (انتينة= هوائي) مغروس تحت الجلد ومتصل بالقلب الصناعي، يرسل نبضات باستمرار إلى المركز الطبي يعلم عن حالة المريض والجهاز، فيقرأ الحرارة والضغط في حجرات القلب والسيولة وتدفق الدم وما شابهها، وإذا قام المريض بنشاط إضافي فإن القلب يعدل من سرعته فيخفق أكثر من المعتاد، بحيث يمارس المريض نشاطاته المعهودة من اللعب أو ممارسة الجنس أو الرياضة والركض. ويعرف اليوم أن ممارسة العمل الجنسي تلقي عبئا لا يستهان به على القلب، حيث يصل معدل ضربات القلب إلى 160 في الدقيقة، وحبوب الفياغرا قد تحل مشكلة العنة، ولكنها عند مرضى القلب سم قاتل وهناك من قضى نحبه أثناء ممارسة العمل الجنسي، فليحذر الذين يخالفون التعليمات أن يقعوا في ورطة قاتلة من عدم الانتباه إلى هذا الجانب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى