نادرة هي الأفلام المغربية التي تعالج مواضيع وتيمات حساسة عن طريق السخرية أو الكوميديا السوداء. ولعل ذلك يرجع إلى البيئة الصارمة التي تربى فيها معظم المغاربة والتي تنظر بشيء من الريبة والحذر للسخرية كأسلوب من أساليب التعبير الإنساني. إضافة إلى افتقارنا إلى أدوات التمييز بين الكوميديا السوداء والاستهزاء. إذ يقع خلط كبير جدا في عقول العديد من المغاربة بين استخدام السخرية كوسيلة فعالة لتفكيك المأساة وتبسيط المعاناة الإنسانية بغاية تخطيها والتعافي منها، وبين الانتقاص من الألم أو تحقيره. فما هو المفهوم الحقيقي للكوميديا السوداء؟ ولماذا نخشى الضحك على مآسينا؟
في جوهرها، تعمل السخرية على بنية متعددة الطبقات من المعنى. عندما يستخدم شخص ما السخرية، فإنه غالبا ما ينقل مشاعره الحقيقية بشكل غير مباشر، مما يسمح بتعبير دقيق وصادق قد يكون من الصعب البوح به بشكل صريح. على سبيل المثال قد يستخدم الفرد، الذي يناقش صراعاته مع الاكتئاب، السخرية للتخفيف من رتابة وكآبة حالته المزاجية، أو قد يلجأ شخص آخر يعاني من الوزن الزائد أو النحافة الشديدة إلى السخرية كوسيلة للنقد والمساءلة الذاتية. وبالتالي يصبح الفعل الساخر عبارة عن درع وقائي أو ميكانيزم دفاعي. مما يمكن المتحدث من مشاركة آلامه وإحباطاته وشعوره بالعار أو النقص، دون الحاجة إلى كشف كل أوراقه أو خباياه الحميمية. يجوز لنا القول إن السخرية بمثابة مسافة الأمان التي تمنحنا مساحة حركة مريحة نستطيع من خلالها الحديث عن أسوأ مخاوفنا وأفظع مآسينا بطريقة أقرب إلى الحياد العاطفي التام.
يمكن أن يكون تأثير الحياد هذا جذابا بشكل خاص أثناء الخوض في الموضوعات الحساسة. فهو يسمح لنا بالتعامل مع القضايا غير المريحة دون مواجهة مشاعرنا بالكامل. يمكن أن توفر السخرية شعورا بالارتياح، وكسر التوتر وتعزيز بيئة مناسبة حيث نشعر بأننا نستطيع البوح والمشاركة دون التعرض للضعف الفوري.
وبالرجوع إلى الدراما المغربية، نلاحظ أن معظم الأعمال السينمائية أو التلفزية وحتى المسرحية، لم تملك الجرأة الكافية لاعتماد السخرية السوداء كحبكة رئيسية لمعالجة أكثر القضايا الاجتماعية حساسية وإثارة للجدل.. إلى أن جاء فيلم «الطريق إلى كابول» سنة 2012 للمخرج ابراهيم الشكيري. يجوز لنا القول إن هذا الفيلم الكوميدي الخفيف عمل على إعادة صياغة إحدى أكثر المآسي الاجتماعية ألما، وتقديمها في قالب ساخر يسائل بذكاء منظومة مجتمعية مفككة. ظلت الهجرة السرية معضلة تؤرق بال المغاربة لعقود طويلة ونزيفا مستمرا يأبى التوقف. كما هو معلوم جرَّت هذه الآفة الاجتماعية ويلات ومآسي طالت عشرات الآلاف من الأسر المغربية. غير أن عمق الألم والمعاناة التي ترخي بظلالها القاتمة على تيمة الهجرة السرية، لم يكن عائقا أمام صناع الطريق إلى كابول، بل ربما كان الحافز الأكبر والأقوى الذي ساعدهم على تفكيك العناصر التراجيدية لقصة الشبان الأربعة الذين انتهى بهم المطاف في أفغانستان بدل أرض الميعاد الأوروبي، وإعادة بنائها على شكل كوميديا تسخر بالأساس من ألم وطن يلفظ أبناءه.
ونحن نعيش اليوم لحظات مربكة وأخبارا متضاربة حول حقيقة هجرة جماعية لمجموعة من المراهقين المغاربة الذين حاولوا الوصول لمدينة سبتة المحتلة، لازالت الضبابية سيدة الموقف.. حيث أغرقت جهات مجهولة مواقع التواصل الاجتماعي بصور ومقاطع فيديو مريبة، تلقفتها الأيادي المتربصة ببلادنا والتي تظل دائما «على القرص» في وضعية استعداد لمهاجمة المغرب والإساءة إليه بشتى الوسائل الممكنة والمستحيلة. غير أن التعامل الحذر مع حقول ألغام «صحاب الحسنات»، والتحلي بالحكمة والمنطق في تحليل المعطيات والمعلومات القادمة إلينا من الشمال، قد يعفينا من الوقوع ضحية للمكائد القادمة من الشرق. غير أن هذا لا يعفينا من المساءلة الأخلاقية المشروعة للمنظومة المجتمعية المسؤولة عن تفريخ وإنتاج جيل أقصى طموحاته تسلق السياجات المعدنية والعبور إلى بلاد الثلج والنار.
إن توجيه أصابع الاتهام ذات اليمين وذات الشمال لن يقدم حلا ناجعا لمأساة اجتماعية حقيقية. فإذا كانت السخرية السوداء وسيلة احتجاج على الألم، فإن المساءلة الذاتية ضرورة حتمية لتشخيص المرض، ثم التغلب عليه. إن إلقاء اللوم على المؤسسات الحكومية والسياسات العمومية أسهل و«أَعݣَز» طريقة للتملص من مسؤوليتنا كمواطنات ومواطنين نساهم بشكل أو بآخر في تشكيل الوعي العام. إن استمرار نزيف الهجرة السرية لا يرسخ فقط صورة متجاوزة عن مغرب الأمس، بل يشوش على كل المكتسبات الحقوقية المهمة والأشواط التنموية الضخمة التي قطعها المغرب ولازال. إن أغلى ما يملكه المغرب اليوم هو رأسماله البشري. أبناء المغرب هم ثروته الحقيقية التي وجب استثمارها وتنميتها وتثمينها.. قد نختلف حول حقيقة «الصورة».. لكننا كمغاربة نتفق على الرفض التام والقاطع لإهانة أبناء هذا الوطن.