شوف تشوف

ثقافة وفن

بداية الحكاية2

مع توديع صيف سنة 2013 وقع لي انتفاخ بسيط (ولسيسة) في الجهة اليسرى من العنق. كالعادة لم أعر للأمر أهمية. فهذه مسألة ثقافية صرفة في التعامل مع الجسد، إذ تعودنا على زيارة روتينية للطبيب حتى نصل إلى مراحل حرجة من المرض.
مع إلحاح أفراد العائلة وبعض الأصدقاء، زرت في البداية طبيبة بالدار البيضاء بعد الفحص (إيكوغرافي) لم تقف على شيء محدد، لكنها شكت في داء السل الذي يسبب مثل هذا النوع من الانتفاخ. قمت بالتحاليل التي طلبت فكانت كلها سلبية, لكن الطبيبة نصحتني بإزالة ذلك الانتفاخ على الأقل من الناحية التجميلية للوجه.
ارتحت للأمر وطويت الملف ولم أفتحه إلا بعد مدة عندما زرت طبيبا آخر مدني ببعض المضادات الحيوية لم يكن لها أي مفعول.
بعد مرور شهرين وبالضبط في 14/12/2014 زرت هذه المرة الدكتور ابراهيم الوافي، وهو طبيب معروف بمدينة الدار البيضاء، مختص في أمراض الأنف والحنجرة. منذ البداية كانت لديه فرضية وجود كيس مائي مجمع في العنق وليتأكد طلب مني إجراء إيكوغرافي. وربما هنا كان الخطأ الكبير لأنني لم أقم بما أمر به الطبيب في الوقت المناسب. إذ أخذتني الالتزامات اليومية والأنشطة الجمعوية، بما فيها زيارة لجمهورية مصر ضمن وفد جمعية المحمدية للصحافة والإعلام، وقبلها استقبال وفد عن الاتحاد المصري للإعلام والثقافة الرياضية هنا بالمغرب، بمناسبة احتضان المغرب لكأس العالم للأندية التي عرفت مشاركة الرجاء المغربي والأهلي المصري.. مر الزمن بسرعة ولم أعد إلى الطبيب إلا في يوم 26/05/2014 محملا بصور الإيكوغرافي. أول ما رآني الدكتور الوافي انتفض في وجهي غاضبا بسبب تأخيري غير المبرر. لم يقتنع بتقرير الطبيب الذي أنجز الإيكو والذي لم يقف على شيء محدد. أخذ «نازو سكوبي» وبدأ في فحص أنفي من الداخل. قال: الحمد لله، وأضاف بالفرنسية il n y’a pas de chose spéciale ليس هناك شيء خاص. سألته لماذا ذهبت مباشرة إلى الأنف في حين أن الانتفاخ في العنق. أجابني بأن هناك شكا في سرطان في الأنف يمكن أن يحدث مثل هذا الانتفاخ.
وكانت أول مرة أسمع فيها كلمة سرطان.
عاد إلى العنق مرة أخرى وفحصه جيدا. قال لي يجب أن تحضر لي «سكانيرا» مزدوجا حول الأنف والعنق. سكانير مزدوج! هنا بدأ التحول وبدأت الأمور تأخذ عندي مجرى جديا ومسارا مخيفا ومفزعا.
منذ تلك اللحظة، قررت أن لا صوت يعلو على صوت الطبيب.
في الصباح الباكر، توجهت رفقة زوجتي إلى مصحة مختصة في الأشعة بالدار البيضاء. مدوني ببعض الأدوية تجنبا للانعكاسات إن كانت لدي حساسية من دواء ما. بعد مرور أربعة أيام، عدت إلى المصحة لإجراء «السكانير» المزدوج. العملية دامت حوالي 10 دقائق قرأت خلالها في عيني التقني المكلف بإجراء السكانير بعض التعاطف معي دون أن ينبس ببنت شفة، رغم أنني حاصرته بالأسئلة. ففي مثل هذه المواقف نبحث عن أي خيط أمل. تعلمت مع التجربة أن مثل هؤلاء الناس يتكلمون إن كان لديهم خبر مطمئن. وإذا قالوا لك «يكون خير» أو «الله يجيب الشفاء» فاعلم أن في الأمر شيئا غير سار.
تسلمت تقرير «السكانير» بعد أربعة أيام.. تفحصت التقرير ولم أفهم فيه شيئا. قبل الخروج من المصحة دلوني على طبيب يريد رؤيتي. كان شابا لطيفا فحصني وقال لي: سأعيد لك الإيكوغرافي مجانا. طرح علي بعض الأسئلة وبالمقابل أمطرته بالاستفسارات في محاولة للبحث عن كلمة أمل. قال لي بصراحة: هناك احتمالان، إما داء السل أو سرطان حميد؟ هذه ثاني مرة أسمع هذه الكلمة. بدأت الفرضية تأخذ طريقها بقوة نحو المرض المخيف. الغريب أنني لم أنفزع ولم تظهر علي علامات الرعب وكنت أتقبل كل ما أسمع بكل بساطة وبشكل عادي. فلسفتي في الحياة أن الإنسان زائر في هذه الدنيا ولا يمكن أن يتحكم في الكثير من الأمور ويمكن أن يحدث أي تغيير في حياته في أي وقت يقلب كل شيء رأسا على عقب. لذا كان علي أن أكون مستعدا في أية لحظة لسماع أو حدوث أي تغيير، والمرض جزء من هذه الأمور.
في صباح الغد، توجهنا، أنا والزوجة إلى الطبيب المختص في الأنف والحنجرة حاملا تقرير السكانير. قرأه مرة أولى ثم أعاد القراءة. لم يلاحظ ولم يقف على شيء محدد.قال لي: لحد الساعة لم يظهر لي شيء. نظر إلي نظرة شعرت فيها أنه يريد إقناعي أو أنه يبحث عن شيء محدد مسبقا في ذهنه لكنه لم يتأكد منه. نظر إلى ساعته وكان الزمن يقترب من السادسة مساء. قال عليك أن تذهب الآن إلى مختبر للتشريح قريب من عيادته للقيام باختبار هناك. أسرعنا إليه لم أستعمل سيارتي وركبنا سيارة أجرة. لم يدم الانتظار هناك طويلا. ووقعت هناك صدفة غريبة. امرأة يبدو أنها قادمة من منطقة قروية ما إن لمحتني حتى بدأت تصيح: انتفاخك مثل انتفاخ ابنتي. شرحت لي أن ابنتها التي تبلغ من العمر سبع سنوات أجرت عملية جراحية في صباح اليوم نفسه، وعلى يد الطبيب نفسه الذي يتابع حالتي. وقد. لم تتوقف السيدة التي حضرت إلى المختبر حاملة عينة لفحصها هناك عن البكاء أثناء حديثي معها ليس فقط بسبب مرض ابنتها فقط، بل بسبب عجزها عن أداء ثمن فحص العينة. أشفقت عليها ووجدت نفسي أتحسس ما في جيبي من أموال لمساعدتها، فبدأت بالدعاء لي إلى أن وصل دوري للدخول عند طبيب المختبر. أخذ إبرة وغرزها في موضع الانتفاخ وقال لي ستعرف النتيجة بعد 10 دقائق. عدت إلى قاعة الانتظار ولم تمر إلا دقائق قليلة حتى نادى علي للدخول إلى مكتبه. بدا لي أنه يبحث عن كلمات ما محاولا إظهار بعض التعاطف معي، مؤكدا لي أنه أعاد التجربة مرتين ليصل إلى نتيجة مؤكدة ولم يفلح. شجعته على الكلام.
أجابني: هناك خلايا لم يعجبني لونها.
قلت في نفسي: خلايا؟ هذا مرتبط بالسرطان الذي بدأت تتحدد معالمه بقوة.
قلت للطبيب: وما العمل الآن؟
أجاب على الفور: عليك أن تقوم بأخذ عينة biopsie (ومرادفها باللغة العربية هو الخزعة)، وفحصها وهو ما سيعطينا نتيجة مضبوطة.
عدت إلى الدكتور الوافي بعد الاطلاع على التقرير الذي كان أهم ما فيه هو القيام بفحص عينة، حدد لي موعدا بعد يومين لأنه هو من سيقوم بأخذ العينة من الأنف.
قلت له: ها أنت عدت للأنف.
فوجئ بملاحظتي، فذكرته بأول زيارة عندما فحص لي أنفي بالمنظار (نازو سكوبي). اطلع على ملفي فتأكد مما قلت له.
في الموعد المحدد، ذهبت إلى العيادة قامت مساعدته بتخدير موضعي بالأنف. عندما وصل الطبيب كنت أول من دخل عنده وبسرعة انتزع عينة صغيرة من أنفي ووضعها على مرآة صغيرة وقال لي أسرع بها إلى المختبر. وهو ما قمت به. هناك طلبوا مني انتظار خمسة أيام لمعرفة النتيجة.
في تلك الأيام كانت الفرضية الأولى هي السرطان, ولكن بقي لي خيط صغير من الأمل أتشبث به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى