شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

«تافيلالت».. كتاب منسي وثق لأخطر مغامرات والتر هاريس

قطع جبال الأطلس ووصل إلى باب الصحراء وأقام على بُعد أمتار من خيمة السلطان الحسن الأول سنة 1893 

يونس جنوحي

تدور أحداث هذا الكتاب سنة 1893. قرر والتر هاريس أن يذهب إلى ما وراء جبال الأطلس، المهمة في سياق تلك الفترة تعد عملا انتحاريا متكامل الأركان. «النصراني» لا ينبغي أن يتجاوز منطقة النفوذ التي يضمن له المخزن المغربي التنقل فوقها، إلا أن والتر هاريس كان له رأي آخر.

هل هو البحث عن السبق الصحافي، كان وراء خوض مغامرة الوصول إلى تافيلالت؟ أم أن والتر هاريس كان يُدرك أن السلطان المولى الحسن الأول يقوي قواعد حكمه في مناطق عرفت بعض أحداث التمرد، خصوصا في سوس؟ فقرر هاريس أن يغطي رحلة السلطان، أو «المْحلّة» السلطانية؟

كتاب «تافيلالت»، الصادر بداية 1896، الذي ننفرد هنا بأول قراءة فيه، وننقل صفحات ساخنة منه إلى العربية، يجيب عن بعض هذه الأسئلة، ويزيد من غموض أخرى.

 

يونس جنوحي

+++++++++++++++++++++++++

 

سيرة أشهر صحافي وكاتب مغامرات بريطاني عاش بين المغاربة

عند الاطلاع على مؤلفات الصحافي والتر هاريس الذي جاء إلى المغرب في فترة حكم المولى الحسن الأول، وبدأ الكتابة عن المغرب والمغاربة سنة 1887، أو قبلها بقليل، يتضح أن الرجل لم يكن فقط مسكونا بالمغرب، وإنما اعتبر نفسه الرحالة الأول الذي كشف للإنجليز ملامح المغرب وحياة المغاربة.

كان الوزراء في بريطانيا يتسابقون على قراءة مقالاته وكتبه عن المغرب، سواء للمجلات، أو لصحيفة «التايمز» التي بدأت تتعامل معه عندما سطع نجمه. والأمر نفسه ينطبق حتى على موظفي المفوضية البريطانية في طنجة، فهؤلاء أيضا لم يكونوا يعرفون المغرب بقدر ما كان يعرفه والتر هاريس.

لسنا هنا بصدد جرد مؤلفات والتر هاريس، إلا أن الاطلاع على كتابه «بلاد سلطان إفريقي»، الذي انفردت «الأخبار» بترجمته الحصرية لأول مرة إلى العربية في يناير 2023، يكشف أن هذا الصحافي عمل في البداية مرشدا ومرافقا للوفود الأجنبية -البريطانية على وجه الخصوص- إلى المغرب، لحضور اللقاءات الرسمية، ومنها لقاء مع المولى الحسن الأول في مراكش.

ومن بين الأجانب الذين تناولوا سيرة والتر هاريس، نجد المغامِرة الثرية روزيتا فوربس (توفيت سنة 1967)، التي زارت المغرب في بداية عشرينيات القرن الماضي، والتقت الشريف الريسوني، وألفت كتاب «الريسوني سلطان الجبال.. قصة حياته كما رُويت لروزيتا فوربس». وقد انفردت «الأخبار» بنشر ترجمته إلى العربية في ركن «سري للغاية»، في أبريل 2022.

من بين ما جاء في كتاب روزيتا فوربس، على لسان الشريف الريسوني، بخصوص والتر هاريس:

«ذات يوم سألني الريسوني عندما كنت أشرب معه الشاي:

«هل تعرفين السيد هاريس؟».

وكان الخدم يرشون حولنا كميات كبيرة من ماء الزهر، وكان الشريف، يفتح ملابسه لكي يتساقط ماء الزهر فوق صدره وظهره».

كان هناك نقاش حول ما إن كان النعناع المستعمل في الشاي الذي أمامنا طريا. وهو ما أنهاه الشريف بالزمجرة غاضبا في وجه الخادم:

-«حسنا، هل يوجد نعناع، أم لا؟ وإذا كان النعناع موجودا، لماذا أحضرت لي هذا الروث؟».

أملا مني في تجنب واحدة من لحظات الصمت الكئيبة والمملة التي تعيق تقدم تسجيل هذه المذكرات، تدخلتُ وأشرتُ إلى أنه من المؤسف ألا يتمكن الأوروبيون من إعداد شاي بهذه الروعة مثل المغاربة.

قال لي الشريف:

«لستِ صبورة. تريدين القيام بكل شيء بسرعة ودفعة واحدة. إن إعداد الشاي يشبه محاولة التعرف على رجل ما. كلا العمليتين يجب أن تتم ببطء وتروّ.

الآن، سوف أخبرك عن «هاريس». لقد كان يعرف طُرق العرب وطباعهم، وحديثه كان ممتعا. فقد كانت لديه موهبة الكلام والحكي، مما جعله محبوبا».

من الغريب فعلا أن العرب لا يقولون عن بعضهم إنهم شجعان أو فرسان ماهرون، لأن مثل هذه الصفات تعتبر بديهية ومفروغا منها. لكن بالمقابل، فإن العرب يمدحون بلاغة بعضهم البعض بحماس.

واصل الريسوني حديثه:

«لقد عرفتُ هاريس لفترة قبل أن يكون سجينا، لأنه كان يذهب إلى الجبال لممارسة القنص. وكان أحيانا يرتدي اللباس المحلي لأهل الجبال، ويتكلم لغتنا أيضا فضلا عن لغته الأم.

زُرت مخيمه ذات يوم، وتحدثنا معا عن أمور كثيرة، لأنه كان تحت حمايتي، عندما توغل في الجبال بحثا عن أخبار لجريدته».

والتر هاريس، الصديق الذي تحول في مرحلة من المراحل إلى عدو للريسوني، زار منطقة تافيلالت، وهو سبق خطير لم يسبقه إليه أحد من الأجانب. حتى أن قراء الكتاب عندما صدر في يناير 1896، لم يصدقوا أن هاريس نجح فعلا في تجاوز جبال الأطلس، بل وتوغل إلى الصحراء، في وقت لم يكن ممكنا للأجانب الوصول إلى نصف تلك المسافة، دون أن يتعرضوا للقتل على يد القبائل الرافضة لوجود «النصارى» في بلادها.

هذه المغامرة التي خاضها والتر هاريس سنة 1893، في آخر سنة من سنوات حكم المولى الحسن الأول، جعلته يحظى بتقدير كبير بين قرائه الإنجليز، وسياسيي بلاده. وننفرد هنا، بنشر أوراق ساخنة من كتابه الذي يحكي عن مغامرة الوصول إلى تافيلالت.. ويحمل الاسم نفسه.

 

هل كانت رحلة هاريس بهدف التجسس على «مْحلة» السلطان؟

«هناك كلمات قليلة لا بد أن أخط بها تمهيدا لهذا الكتاب.

أنا مدين بالشكر لثلاثة أصدقاء، على دعمهم لنجاح رحلتي. وهم بالاسم: ألكسندر بيكوفر، جيمس ماسون، وهالي بورتون.

إلى ملاك صحيفة «Illustrated London News»، أنا ممتن جدا لاستخدامهم الرسومات التي نُسخت من صوري الفوتوغرافية الأصلية. والتي وضعوها، بسخاء كبير، رهن إشارتي، ورهن إشارة الناشرين.

والتر هاريس

نونبر 1895».

هكذا بدأ الصحافي البريطاني الشهير كتابه «تافيلالت». لقد كان الأمر يتعلق بكتاب يقدم أوصاف جغرافية المغرب، مع توابل الحكي التي يُتقن إضافتها في كل كتاباته الأخرى.

الكتاب يُثبت أن والتر هاريس قد وصل فعلا إلى تافيلالت، وأن السبق الصحافي الذي يتمثل في نجاحه في عبور أخطر المناطق على الأجانب، والمعروف أهلها برفض وجود «النصارى» في المغرب سنة 1893 -العام الذي تدور فيه أحداث الكتاب- لم يكن خيال كاتب، أو نتيجة سماع حكايات الرحالة والتجار، الذين أصبح بعضهم أصدقاء والتر هاريس في طنجة وفاس.

تزامنت رحلة والتر هاريس إلى تافيلالت مع وصول «مْحلة» السلطان المولى الحسن الأول إليها. والأمر لا يمكن أن يكون صدفة، إذ إن والتر هاريس كان فعلا يخطط لخوض مغامرة اكتشاف المغرب، الذي لم يكن الأجانب يعرفون عنه أي شيء. المغرب الواقع خلف جبال الأطلس. لكن ما شجعه أكثر على المضي في تلك الرحلة، رغبته في الفوز بسبق صحافي، يتمثل في الكتابة عن وقائع زيارة المولى الحسن الأول إلى المنطقة.

لكن الوقائع، أظهرت أن هاريس نجح في هدفه الأول، ولم يستطع التحكم في الأحداث عندما تعلق الأمر بالهدف الثاني.

ومن خلال مطالعة مغامرة والتر هاريس في «تافيلالت»، يظهر أن المخزن تخوف من أن يتصل هاريس بموظفين أجنبيين كانا مع موكب المولى الحسن الأول. ورغم أن هاريس لم يكن يتوفر على معلومات عنهما، إلا أن التاريخ أظهر أن الأمر يتعلق بأحدهما على الأقل، وهو الدكتور لينارس.

هذا الأخير، كتب للحكومة الفرنسية رسالة مفصلة عن رحلة المولى الحسن الأول إلى تافيلالت. لكن رحلته مع الموكب السلطاني لم تكن لتصنف في باب المغامرات، فقد كان يتنقل إلى هناك في حماية السلطان، في ظروف مريحة جدا وبحضور وزراء الدولة المغاربة ومرافقيهم من الخدم، ويحظى باستقبالات رسمية في كل المناطق والقبائل التي مر منها الموكب السلطاني، خلال رحلة استغرقت أسابيع.

هذا الدكتور الفرنسي عاش في المغرب ما بين سنتي 1880 و1902، واشتغل طبيبا، لكن اتضح من خلال تقاريره أن الطب لم يكن إلا ذريعة لتسهيل إقامته في المغرب، نظرا لحاجة البلاد وقتها إلى الأطباء، في حين أنه تفرغ لممارسة السياسة، وعمل على إضعاف فرص المخزن المغربي في التفاوض مع فرنسا.

رافق هذا الطبيب موكب المولى الحسن الأول، باقتراح من الصدر الأعظم باحماد، الذي كان صديقا لطبيبين فرنسيين آخرين، واستعان بهما شخصيا لعلاجه عندما اشتد عليه المرض سنة 1899.

كتب الدكتور لينارس مجموعة من التقارير عن رحلته إلى تافيلالت، لكنها لم تكن بالتشويق نفسه الذي نقل به والتر هاريس قصة ذهابه إلى المكان ذاته، يسابق الزمن للحاق بركب السلطان.. وربما يكون هذا هو سبب التوجس الذي تعامل به القصر، خصوصا وزير الخارجية المغربي، مع خبر وصول هاريس إلى تافيلالت، إذ حامت حوله الشكوك، واشتُبه في أن يكون في إطار مهمة سرية للتجسس على المولى الحسن الأول.

وصف نواحي الأطلس في زمن كانت معلومة جغرافية عن المغرب تساوي ثروة

«رغم ما يقال عن كون سلسلة جبال الأطلس تمتد من المحيط الأطلسي وصولا إلى شاطئ «سرتيس»، إلا أنني أنوي هنا الحديث عن جزء منها فقط، وهو الجزء الموجود في المغرب.

ولهذا السبب، وباختصار، فإنني لم أتمكن من مشاهدة الكثير منها لكي أجمع معلومات عن طبيعتها، بحكم أنني ذهبتُ وعدتُ من نفس المكان. إلا أنني زُرت الأطلس مرتين سابقتين، وخلالهما معا، سرتُ بمحاذاته من جنوب مراكش، إلى أن اقتربتُ من المحيط الأطلسي -أي إلى النقطة التي تنخفض فيها التضاريس، لتشكل نقطة تجمع للماء بين نهري سوس، جنوبا، وتانسيفت شمالا».

عندما يطالع أحد ما كلام الصحافي والتر هاريس، بعد أن مضت عليه 132 سنة، يُخيل إليه أن الرحلة كانت محدودة، أو أن هاريس لم يطلع على الكثير. لكن الحقيقة أن المغامرة التي خاضها أكسبته مكانا مرموقا بين الرحّالة، عبر التاريخ. وهذا الأمر ليس مبالغة، لأن الوصول إلى تافيلالت إنجاز غير مسبوق بين الإنجليز، وحتى بين الفرنسيين. وكان حلم حكومات أوروبا وقتها أن تصل فقط إلى منطقة الأطلس، وليس أن تخترقها للعبور إلى «العالم» الذي يوجد وراءها، ولا تعرف عنه أي شيء.

عندما استقر والتر هاريس في المغرب، وأصبح صديقا للسلطان مولاي عبد العزيز، بعد خمس سنوات على رحلته هذه إلى تافيلالت، تأكد فعلا أنه وصل إلى هناك، فقد حكى للأجانب والمغاربة عن نقاط العبور ومشاهداته على الطريق، والتقى في فاس بأناس التقاهم في تافيلالت وجمعته بهم صداقة، وهؤلاء أكدوا لوزراء وشخصيات مغربية أن والتر هاريس وصل فعلا إلى هناك.

أما عندما نشر هاريس صور الرحلة والرسومات التي وصف فيها بعض المعالم الجغرافية والأمكنة، مُعززة بالصور والرسومات التي لم يكن الوصول إليها ممكنا، لولا أنه وصل فعلا إلى هناك.

وعموما، فإن مصداقية والتر هاريس بين الصحافيين والمؤرخين، تُغني عن الطعن في كتاباته، بحكم أنه اشتهر عالميا بأنه أكثر الإنجليز مخالطة للمغاربة، حتى أنه تعلم العربية وألمّ بثقافة المغاربة، وافتخر أمام وزراء بريطانيا وموظفي السلك الدبلوماسي البريطاني، الذين التقاهم في طنجة، بأنه يستطيع تبادل السب والشتم مع المغاربة، بطلاقة، وأثبت لهم هذا الأمر على أرض الواقع!

أطنب والتر هاريس في الحديث كثيرا عن حدود جبال الأطلس ووصفها، حتى أنه أطال كثيرا في الإحاطة بالجوانب الجغرافية لامتداد الجبال وصولا إلى المحيط، واستغرق صفحات معتبرة في هذا الأمر. وانتقل إلى الحديث عن مكونات الصخور وملتقيات الوديان، وقدم ما يشبه خريطة مكتوبة، كان الإنجليز والفرنسيون في ذلك التاريخ مستعدين لأداء مبالغ ضخمة في سبيل الحصول على معلومات من هذا النوع.

 

 

قصة طريفة وراء استقرار الأمازيغ بسوس.. وتوظيف «زطاّط» إلى دادس

«سمعتُ رواية واحدة متداولة بين الأمازيغ، عن مدى قدم وجودهم في المنطقة. ويبدو أنها حكاية شائعة جدا، بحكم أني سمعتها في مناسبات كثيرة خلال هذه الرحلة. يصعب تحديد كيف نشأت هذه القبيلة، إذ يبدو أن أصلها مختلف تماما عما سجله التاريخ عنها، بل وحتى تقاليدهم مختلفة. تقول الرواية: كانت هناك فتاة صغيرة من شعب الأمازيغ الأصلي، في الوقت الذي كان فيه الأمازيغ يعيشون في بلد تعصف فيه رياح شرقية قوية.

مرت هذه الفتاة يوما بالقرب من ملك غريب عن المنطقة، فكُشف جسدها أكثر مما يجب، لأن الرياح رفعت ثوبها. وعندما ضحك الملك من الفتاة سيئة الحظ، رحلت القبيلة ليلا بعد أن أحس أفرادها بالعار، وساروا إلى أن وصلوا إلى البلد الذي يسكنونه الآن».

هذه الرواية نقلها هاريس، ليكشف جانبا من التراث الشفهي في منطقة الأطلس. وقبل أن يورد هذه الحكاية، فقد تحدث في فقرة سابقة عن مدى تنوع الأمازيغ، واشتراكهم في جميع ما يتعلق بالمظهر والثقافة واختلاف طفيف في اللغة. حتى أنه قال إن الزائر لجميع مناطق وجود الأمازيغ في المغرب، من سوس والريف ووسط الأطلس، قد يُخيل إليه أن هؤلاء الأمازيغ أسرة واحدة فقط وتفرقت.

هذه الخلاصة وصل إليها هاريس، بعد أن عاين سكان الأطلس وتعامل معهم واستضافوه في منازلهم. لكنه ركز في هذا الكتاب على مسألة أصولهم، وكيف انتقلوا إلى هناك، ليحتموا بجبال الأطلس من الغزو الأجنبي والغارات.

ذكر هاريس أيضا، أنه للوصول إلى دادس، ومنها للعبور إلى تافيلالت، كان يتعين عليه توظيف «زطّاط». ويقصد بهذه الكلمة التاريخية، المرافق أو الدليل الذي يساعد الأجانب على العبور فوق النفوذ الترابي للقبائل. كان ضروريا الاستعانة بـ«زطّاط»، للعبور ومغادرة منطقة سوس. يقول: «لقد وفر لي وجوده بجانبي، الحصانة من التفتيش والإزعاج». ويقصد هاريس هنا، أن دليله المحلي، كان ضمانا للقبائل الأخرى أن هاريس لا يحمل أي شر.

كان الأوروبيون يُدركون أن هاريس لا بد أن يُقتل خلال رحلته تلك، خصوصا وأن الصحافة البريطانية كانت تسمي منطقة سوس بـ«المنطقة المحرمة»، بحكم ألا بريطانيا أو أوروبيا قد نجح في التوغل داخلها، وربط صداقات مع القبائل التي تعيش فيها. لكن والتر هاريس يقول هنا إنه مر بسلام عبر القبائل التي تعيش بين سوس تافيلالت، وكان وجود دليل محلي معه كافيا.

يضيف هاريس أنه كان محظوظا جدا، لأنه لم يكن في حاجة إلى تغيير «الزطّاط». واعترف بأن السفر بالقرب من دادس والمرور عبر مجموعة من القبائل التي تسكن هناك – كلها تقريبا حسب قوله- آمن جدا، وتسمح بمرور قوافل المسافرين عبر ترابها بدون مشاكل.

يقول هاريس إن الطبيعة تحالفت مع منطقة دادس، ووفرت لسكانها سدا طبيعيا لتشكيل حدود نفوذهم شرقا وغربا، واعتبر الأمر امتيازا لهم.

 

 

مغامرة الوصول إلى تافيلالت متخفيا عن أعين القناصة

أثنى والتر هاريس كثيرا على مرافقه المنحدر من منطقة دادس، ونسب إليه الفضل في وصوله بنجاح إلى منطقة تافيلالت، بل وَعَدَّدَ خصال مرافقه وأمانته.

كان والتر هاريس يعلم أن السلطان الحسن الأول قد جاء إلى تافيلالت. وبدا واضحا من بين السطور، أن هاريس كان يرغب في لقاء السلطان في قلب تافيلالت.

بعد سنوات طوال على هذه المغامرة، انكشف السبب. فوالتر هاريس في كتاباته الأخرى لم يخف طموحه المبكر للفوز بصداقة مع القصر، لكي يلعب دورا في التفاوض مع بريطانيا، ليس لكي يشتغل مترجما فقط، وإنما «مهندسا» للاتفاقيات، فيحوز ثقة بلاده من جهة، ويحظى بالنفوذ في بلاد المخزن التي صار يعرفها أكثر من أغلب المغاربة في ذلك الوقت. فأعيان فاس ووزراؤها أنفسهم لم يسبق لهم أن تجولوا في سوس، أو وصلوا إلى تافيلالت.

يقول: «بقلوب متحمسة، نهضنا لكي ننطلق في المسير بنشاط وحيوية، رغم أنه لم يكن لدينا أي أمل في اللحاق بمعسكر السلطان خلال تلك الليلة. فقد كنا مصممين، ما لم يقع أمر غير متوقع، على النوم تلك الليلة في تافيلالت».

يظهر هنا جليا أن هاريس كان يتابع الأخبار أولا بأول. ولا بد أن مرشده من دادس لعب دورا كبيرا في تزويده بالموثوق منها، عن حركة المولى الحسن الأول الشهيرة إلى تافيلالت سنة 1893، السنة نفسها التي جرت فيها وقائع رحلة هاريس إلى هناك.

رحلة السلطان الحسن الأول إلى تافيلالت مرت عبر مكناس وميدلت، واستمر موكبه في المسير عبر الجهة الشرقية. بينما رحلة والتر هاريس إلى تافيلالت مرت أولا عبر آسفي، بحكم أن الأجانب وقتها كانوا يفضلون ركوب البحر لأطول مسافة ممكنة، ثم النزول في مدينة شاطئية، والانطلاق منها نحو الوجهة النهائية.

كان والتر هاريس في ذلك التاريخ، أي في سنة 1893، لم يستقر بعدُ في فاس، ولو أنه كان في فاس، لربما نجح في اللحاق بركب السلطان الحسن الأول في الرحلة نفسها.

يقول هاريس إنه سلك طريقا استدار خلاله عبر جبل صاغرو، وسابق الوقت لكي يقضي الليلة في تافيلالت. وهذه المعلومة لديها قيمتها العسكرية. فعندما جاءت القوات الفرنسية إلى المكان، كان جبل صاغرو نقطة مهمة خلال عملية نشر القوات الفرنسية للسيطرة على المنطقة.

يشير هاريس أيضا إلى أنه توجب عليه التنكر في زي محلي. يقول: «لسوء الحظ، قبل أن يتمكن أوروبي أن يرى غريمه ويطلق عليه النار، سيكون قد خرّ أرضا بطلقة واحدة من قناص محلي. إن كراهية المحليين للأوروبيين شديدة جدا. إلى درجة أن الرحلة بدون تنكر أو تمويه، ما لم تكن بصحبة شريف من العظماء، ستكون مستحيلة تماما».

هذه الفقرة كفيلة بتصوير حجم المخاطرة التي بذلها والتر هاريس للوصول فعلا إلى تافيلالت. إذ كان ممكنا أن يُطلق عليه أحدهم النار من مسافة بعيدة، قبل أن يلمحه. ولن يكون بوسع هاريس التصرف، فقد كان مقاتلو المنطقة يحتمون بالمرتفعات، لحماية المسالك. وحتى مع تأكيد هاريس على أن سكان المنطقة مسالمون في الغالب، إلا أن الأمر يتعلق بمرور قوافل المغاربة، وقد يتغير كل شيء إن علموا أن بين العابرين، أوروبي، أو «نصراني»، كما يقول هاريس عن نفسه، نقلا على لسان المغاربة.

 

 

هاريس انتظر خمسة أيام لكي يستقبله المولى الحسن الأول في خيمته

الإشارة التي قدمها هاريس في بداية الفصل الذي تناول فيه اقترابه من الوصول إلى تافيلالت، والتي تتعلق بمعلومة وصول موكب السلطان الحسن الأول إلى المدينة، سيكون لها ما بعدها.

فقد فاجأ والتر هاريس قُراءه بالحديث في فصل مستقل اختار له عنوان «مع السلطان في تافيلالت».

يتعلق الأمر بالسلطان الحسن الأول، الذي كان في آخر سنوات حكمه. وكان القدر قد حدد له سنة أخيرة في الحكم، بحكم أن الزيارة إلى تافيلالت كانت سنة 1893، والسلطان توفي سنة 1894، بينما هاريس أصدر كتابه ما بين دجنبر  1895 -التاريخ الذي ظهر فيه الكتاب أول مرة في لندن- وبداية السنة التي بعدها، عندما انتشر الكتاب بين القراء.

يقول والتر هاريس في بداية هذا الفصل:

«طال انتظار محمد الريفي، قبل أن يحظى بموعد مقابلة مع وزير الخارجية السيد غرنيط. وعندما حظي باللقاء، لم يكن هناك أي أمل في أن أحظى باستقبال.

في الواقع، لم يقلق وصولي غير المتوقع ذلك الرجل الطاعن في السن. فرغم أنه كان يعرفني شخصيا، وكنت أحمل معي رخصة عليها ختم السلطان تتيح لي السفر فوق أراضيه، إلا أن الوزير بدا عليه الانزعاج الشديد من وجودي هناك.

ومع ذلك فإن صديقي عاد إلي بخبر، أسعدني كثيرا.

كان القائد ماكلين، الضابط الإنجليزي الذي ينتمي إلى حاشية السلطان، موجودا في المخيم. ولولا وجوده هناك، ما كنت لأتخيل حجم المأزق الذي كنت لأجد نفسي فيه. ولكن لحسن حظي، فقد كان موجودا هناك فعلا. ورغم كل العوامل التي اجتمعت كلها ضدي، فإن ترجيه لاستقبالي من طرف السلطان، لعب دورا كبيرا لصالحي، كما سوف نرى في النهاية».

بدا واضحا أيضا أن والتر هاريس كان يعرف أمورا كثيرة عن سياق زيارة السلطان الحسن الأول إلى تافيلالت. فقد اتضح فعلا أن السلطان كان مرفوقا بموظف رسمي فرنسي، ذهب معه إلى هناك، وهو الدكتور «لينارس». وقد كتب هذا الأخير تقريرا مفصلا عن رحلة المولى الحسن الأول.

يقول والتر هاريس ممازحا صديقه القائد ماكلين – وهو عسكري أسكتلندي وظفه المولى الحسن الأول لتأهيل وتدريب الجيش المغربي، وعمل مع المْخزن وأصبح رجل ثقة داخل القصر الملكي في فاس- إنه حشر أنفه في طبيعة زيارة المولى الحسن الأول إلى تافيلالت، وكتب عنها بضعة أسطر في هذا الكتاب، وكان يعلم أن صديقه ماكلين قد يؤاخذه ربما على كشف بعض كواليس تلك الزيارة للقراء، أو على التدخل في ما يمكن اعتباره شؤونا داخلية.

لم يتوقع هاريس أن الكتاب عندما سوف يصدر للعموم، سيكون المولى الحسن الأول قد توفي، والسياق كله قد تغير.

يعود والتر هاريس إلى الحديث عن قضيته الأهم في ذلك الوقت، وهي الوصول إلى «مْحلة» السلطان ولقائه.

يقول: «أخيرا، عاد محمد ومعه نبأ وجود القائد ماكلين، وبرفقته اثنان من الجنود، ليصطحباني إلى المكان الذي أقيم فيه بالمخيم، حيث سأجد هناك مأوى أمكث فيه ريثما يُعرف لديهم رأي السلطان ورغبته بشأن استقبالي من عدمه. في هذه الأثناء طُلب مني المكوث والبقاء «هادئا»، وألا يكون هناك أي اتصال بيني وبين أي مسؤول أوروبي من الرسميين، أو حتى مع المسؤولين والموظفين المحليين».

يقول هاريس إن الجميع كانوا ينتظرون أن يخرج السلطان الحسن الأول من خيمته الخاصة، حيث كان يقضي الوقت ليرتاح، وبمجرد ما أن يغادر تلك الخيمة، سوف يُعرف مصير رغبة والتر هاريس.

يقول هاريس إنه قضى خمسة أيام كاملة في الانتظار، وتعرف فيها عن قرب على واقع عمل جنود الحراسة. وبما أن هاريس معروف بقلمه الحاد واللاذع، فإنه لم يُعدم كلمات وجملا للنيل من حياة «المخازنية»، الذين تكلفوا بحراسة خيمته والحرص على ألا يغادرها نهائيا.

يقول هاريس إنه بدأ يشعر بعض مضي الأيام الخمسة بالملل، وكَاتَبَ القائد ماكلين يسأله عن مصيره. هذا الأخير طلب منه أن يبقى حيث هو، في انتظار قرار السلطان. لكن هاريس كتب إلى وزير الخارجية وطلب منه أن يخصص خيمة نظيفة له ولرجاله، وبعض المؤونة، خلال فترة انتظار رد السلطان. وفي المساء نفسه الذي راسل فيه وزير الخارجية، جاءه الرد ليلا: «وصلني الرد ليلا. لقد تم إخبار السلطان بمجيئي، وقد عبّر عن عدم رضاه عن وجودي هناك، ورفض بطبيعة الحال أن يمنحني خيمة أو أي شيء آخر، وقيل لي أن ألزم المكان الذي كنت فيه وألا أتحرك منه، إلى حين وصول أوامر أخرى».

ولكي يُبهر والتر هاريس قراءه، الإنجليز خصوصا، فقد انتقل إلى الحديث عن الظروف التي مكث فيها هناك وحيدا في انتظار السماح له بالمغادرة. بدا واضحا أن المخزن توجس من وجود هذا المغامر والصحافي الأجنبي على بعد أمتار من خيمة السلطان، الذي كان يزور تافيلالت لإنهاء مشاكل المنطقة وتقوية حضور الدولة فوق ترابها، والأكيد أن بعض التفاصيل لم يكن مرغوبا في أن تصل إلى الصحافة الدولية.

قدم والتر هاريس لاحقا وصفا دقيقا لـ«مْحلة» السلطان الحسن الأول، وتحدث عن وجود 40.000 شخص يرافقونه، ما بين الوزراء والخدم والعمال والمكلفين بمهام الطبخ وتحضير الشاي واستقبال الضيوف ونصب الخيام وجمعها وحراسة الخيول وإطعامها. لقد كان الأمر أشبه بمدينة متنقلة.

لقد التقى والتر هاريس السلطان الحسن الأول سابقا، وهو ما كشفه بنفسه في كتابه «بلاد سلطان إفريقي»، الذي انفردت «الأخبار» بترجمة حصرية له، منذ يناير 2023، إلى العربية، في سلسلة «سري للغاية». لكن بدا واضحا أن هاريس دافع باستماتة عن رغبته في رؤية المولى الحسن الأول، خلال السنة الأخيرة لحكمه، بعد أن مثل أمامه قبل خمس سنوات تقريبا على زيارة تافيلالت، في إطار زيارة وفد بريطاني رفيع. لكن والتر هاريس كان يرغب في محاورة السلطان، وليس فقط الحضور بين أفراد وفد داخل قصر مراكش.. لكن هاريس لم يستعجل قدره، فقد كانت تفصله سنة واحدة فقط على وصول المولى عبد العزيز إلى السلطة، لكي يصبح مقربا منه، ويكتب عنه الكثير في الصحافة البريطانية، بل ويعتبر نفسه صديقا للقصر.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى