تواجه الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تحديات متصاعدة، بسبب هيمنة الصين على سوق المعادن النادرة، المستخدمة في الصناعات المتقدمة، مثل السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة والتقنيات العسكرية. ومع سيطرة بكين على نحو 70 في المائة من الإنتاج العالمي، أصبحت هذه المعادن ورقة ضغط استراتيجية. وأدت القيود الصينية الأخيرة على الصادرات إلى تحرك واشنطن، عبر استثمارات وتحالفات دولية لتأمين الإمدادات الحيوية، فيما تعمل أوروبا على إعداد إجراءات مضادة وتطوير مصادر بديلة لتجنب اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية.
إعداد: سهيلة التاور
تتحرك الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لمواجهة الهيمنة الصينية على سوق المعادن النادرة، عبر استراتيجيات غير تقليدية واستثمارات دولية ضخمة، تهدف إلى تأمين الإمدادات الحيوية، في وقت تتصاعد فيه المخاوف من اضطرابات عميقة في سلاسل التوريد العالمية.
وتتحكم الصين في نحو 70 في المائة من إنتاج المعادن النادرة في العالم، كما تقوم بالمعالجة الكيميائية لما يصل إلى 90 في المائة من الإمدادات العالمية. وفي دجنبر 2024، فرضت بكين حظراً على تصدير عدد من هذه المعادن إلى الولايات المتحدة، رداً على القيود التكنولوجية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن.
وفي أبريل الماضي، وبعد تهديد دونالد ترامب بسياسة الرسوم الجمركية، فرضت الصين قيوداً إضافية على صادرات المعادن النادرة، ما تسبب في ارتباك واضح لدى العديد من المصانع حول العالم.
تصعيد صيني وتهديدات أمريكية
خلال الشهر الجاري، وسعت الصين قيود التصدير والتراخيص الخاصة بقطاع المعادن النادرة، في خطوة شبهها بعض أعضاء إدارة ترامب بـ”هجوم بيرل هاربر” الاقتصادي. وتشمل القيود الجديدة مجموعة من المعادن تُستخدم في تصنيع مغناطيسات توربينات الرياح والمركبات الكهربائية ومحركات الطائرات، وأخرى تُستعمل بكميات صغيرة في إنتاج أشباه الموصلات والأجهزة الطبية وعلاجات السرطان.
وردا على ذلك، هدد ترامب بفرض ضريبة إضافية بنسبة 100 في المائة على الواردات الصينية اعتباراً من الأول من نونبر إذا لم تتراجع بكين عن القيود الجديدة المقررة للشهرين المقبلين.
سلاح اقتصادي قديم
استخدام الصين للمعادن النادرة كورقة ضغط ليس جديداً؛ ففي عام 2010 أوقفت صادراتها إلى اليابان أثناء نزاع بحري، كما استخدمت قيوداً تجارية مشابهة ضد أستراليا وكوريا الجنوبية وإستونيا.
ورغم محاولات إدارة بايدن السابقة لمراجعة سلاسل الإمداد المعتمدة على الصين، فإن تلك الجهود لم تحقق تقدماً يُذكر بسبب تعقيد عمليات التعدين والتكرير وطول فترتها الزمنية. وقال كورت كامبل، نائب وزير الخارجية السابق، “لقد كنا بارعين جداً في تقدير المشكلة، وأقل مهارة في حلها”.
استثمارات لتعزيز الإمدادات الحيوية
تسعى إدارة ترامب حالياً لتعزيز الإمدادات الحيوية اللازمة لصناعات السيارات والطائرات والأسلحة ومراكز البيانات، في ظل السيطرة الصينية شبه المطلقة على هذه السوق الحساسة. وقد استثمرت الإدارة الأمريكية خلال الأشهر الماضية في عدة شركات تعدين، وتخطط لإنشاء احتياطي إستراتيجي من المعادن النادرة، ودعم المنتجين المحليين عبر ضبط الأسعار وفرض الرسوم الجمركية.
كما أعلنت واشنطن عن اتفاق استراتيجي مع أستراليا لاستثمار مليارات الدولارات في تطوير إمدادات المعادن النادرة.
وخلال منتدى استثماري، قال وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت إن الإدارة “تسعى إلى وضع حد أدنى للأسعار وإنشاء احتياطي إستراتيجي من المعادن لضمان عدم تكرار الأزمة”. من جانبه، أكد كوش ديساي، نائب السكرتير الصحافي للبيت الأبيض، أن “الإدارة ملتزمة باستخدام كل الأدوات المتاحة لحماية الأمن القومي والاقتصادي للولايات المتحدة”، مضيفاً أن “حقبة الاعتماد على الخارج انتهت مع تولي ترامب الحكم”.
تحركات استثمارية مباشرة
تتجه إدارة ترامب نحو الاستثمار المباشر في قطاع التعدين، وقد استحوذت بالفعل على حصص في عدة شركات تعمل في هذا المجال، من بينها شركة “تريولوجي ميتالز” الكندية التي تطور مشاريع لتعدين النحاس والزنك في ألاسكا، وشركة “ليثيوم أميريكاس” التي تعمل على تطوير أحد أكبر مناجم الليثيوم في العالم بولاية نيفادا.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن واشنطن تدرس استثمارات حكومية إضافية في مجالات مثل مغناطيسات المعادن النادرة، والتعدين في أعماق البحار، والمناجم الإفريقية التي ما زالت بعيدة عن النفوذ الصيني.
وأثارت هذه التحركات قلق بعض المحللين والمديرين التنفيذيين الذين تساءلوا عن آلية اختيار الاستثمارات الضخمة ومردودها الاقتصادي، خاصة في ظل وجود شركات تروج لتقنيات جديدة لم تُختبر على نطاق واسع. ويرى هؤلاء أن دعم عمليات التعدين والمعالجة أو بناء احتياطي استراتيجي يتطلب تمويلاً واسعاً من الكونغرس، في حين يرى آخرون أن الحل يكمن في تنسيق دولي أوسع بالنظر إلى الطبيعة الجغرافية المتوزعة لهذه المعادن حول العالم.
وتشارك في الجهود الأمريكية عدة وكالات حكومية، من بينها المجلس الوطني للهيمنة في مجال الطاقة الذي أُنشئ في فبراير الماضي، إلى جانب وزارات الدفاع والطاقة والخزانة، وبنك التصدير والاستيراد الأمريكي. أما وزارة الخارجية فتقود مشاورات لإبرام شراكات دولية جديدة، بينما تعمل وزارة التجارة على إعداد رسوم جمركية على المعادن الحيوية وتحليل سلاسل الإمداد.
غير أن موظفين سابقين في الوزارة أشاروا إلى أن إعادة الهيكلة خلال إدارة بايدن وتقليص الموارد في عهد ترامب أضعفا قدراتها التنظيمية والإدارية.
أوروبا تدخل على خط المواجهة
تتحرك المفوضية الأوروبية لإعداد سلسلة من الإجراءات التجارية للرد على القيود الصينية المرتقبة على تصدير المواد الخام الحيوية. ووفقًا لوكالة “بلومبيرغ”، تعكف المفوضية على إعداد قائمة بالإجراءات التجارية الممكنة ضد الصين قبل نهاية الشهر، لتعزيز الموقف الأوروبي خلال المفاوضات المقبلة مع بكين.
وتتضمن الخطة تأمين مصادر بديلة للمعادن النادرة على المدى القصير، وتطوير آليات لحماية الإمدادات الحيوية في حال فشل المسار الدبلوماسي. وتشير البيانات إلى أن الصين ما تزال تهيمن على نحو 70 في المائة من الإنتاج العالمي للمعادن المستخدمة في قطاعات البطاريات والسيارات الكهربائية والدفاع والتكنولوجيا الدقيقة، ما يمنحها نفوذاً واسعاً على سلاسل التوريد الدولية.
مفاوضات متوترة وتنسيق غربي محتمل
شهدت المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي والصين توتراً واضحاً بعد فشل اللقاء بين مفوض التجارة الأوروبي ماروش شيفتشوفيتش ونظيره الصيني وانغ ون تاو في التوصل إلى اتفاق. وقال شيفتشوفيتش عقب الاجتماع إن “الاتحاد لا يسعى إلى التصعيد، لكنه يرى أن الوضع الحالي يلقي بظلاله على العلاقات الثنائية ويجعل التوصل إلى حل سريع أمراً ضرورياً”.
وأشار إلى أن الاتصالات ستتكثف خلال الأيام المقبلة مع زيارة وفد صيني إلى بروكسل لمواصلة الحوار، في حين رفض متحدث باسم المفوضية الكشف عن طبيعة الإجراءات المنتظرة نظراً لحساسية الملف.
وفي هذا السياق، كشفت بلومبيرغ أن الاتحاد الأوروبي يناقش مع دول مجموعة السبع (G7) إمكانية تنسيق الجهود لتقليل الاعتماد على الإمدادات الصينية. وتوضح مسودة استنتاجات القمة أن المجلس الأوروبي “يدعو المفوضية إلى استخدام أدوات الأمن الاقتصادي للاتحاد بالكامل للتصدي للممارسات التجارية غير العادلة”.
أما الصين، فقد حاولت احتواء المخاوف الغربية بتصريحات قالت فيها إن القيود الجديدة “إجراء مسؤول لحماية السلم والاستقرار العالميين”، لكن مسؤولين أوروبيين يعتبرونها وسيلة ضغط سياسية جديدة قد تتسبب في اضطرابات واسعة في الصناعات الأوروبية الحساسة.
اقتصاديون يحذرون
أوضح خبراء البنك المركزي الأوروبي أن اقتصادات منطقة اليورو تعتمد بشكل مباشر على الصين في استيراد المعادن النادرة، أو بشكل غير مباشر عبر وسطاء دوليين مثل شركات التكنولوجيا الأمريكية.
وجاء في التقرير: “الاعتماد على سلاسل توريد غير مباشرة يضاعف من حجم التعرض للمخاطر، حيث يمكن لأي اضطراب طفيف في الصادرات الصينية أن يتسلسل عبر الوسطاء ويؤثر في مجموعة واسعة من الصناعات الأوروبية”، وفق ما نقلته “وول ستريت جورنال”.
ولفت التقرير إلى أن أبرز القطاعات المعرضة للتأثر تشمل السيارات والإلكترونيات، والطاقة المتجددة.
وأكد البنك المركزي الأوروبي أن: “الاضطرابات في سلاسل التوريد الناجمة عن قيود التصدير الصينية قد تؤدي إلى ارتفاع تكاليف المدخلات للمصنعين، كما أن النقص في المواد يمكن أن يوقف خطوط الإنتاج ويضعف النشاط الاقتصادي العام”.
وحذر اقتصاديون في البنك المركزي الأوروبي من أن بكين بدأت بالفعل في استخدام ما وصفوه بـ”الاحتكار شبه الكامل” للمعادن النادرة كورقة سياسية.
وأشار التقرير إلى أن الصين فرضت مؤخرا قيودا على صادراتها إلى أمريكا ردا على الرسوم الجمركية التي هدد الرئيس دونالد ترامب بفرضها.
وقال الخبراء: “الصين يمكن أن تستخدم المعادن النادرة للضغط في المفاوضات التجارية الجارية مع الاتحاد الأوروبي”.
وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، يضع هذا الوضع منطقة اليورو أمام معضلة إستراتيجية، من حيث ضرورة تنويع مصادر الإمدادات لتقليل التبعية للصين، في مقابل النفوذ التجاري المتنامي لبكين الذي قد يتحول إلى سلاح اقتصادي يهدد استقرار النمو والتضخم في القارة الأوروبية.





