شوف تشوف

الدوليةالرئيسيةسياسية

تداعيات التوتر الإسرائيلي الإيراني على القارة السمراء

تباين في المواقف وتصاعد للتحديات الاقتصادية

في ظل تصاعد التوتر العسكري بين إيران وإسرائيل، بمنطقة الشرق الأوسط، يتخطى هذا الصراع حدوده الجغرافية ليمتد أثره إلى دول عديدة في القارة الإفريقية. هذه الدول تواجه واقعًا معقدًا يتطلب موازنة دقيقة، بين مصالحها الاستراتيجية والضغوط الإقليمية والدولية المتصاعدة، وسط تحديات سياسية واقتصادية متشابكة. وتعكس هذه الأزمة أبعادًا تاريخية عميقة في العلاقات بين إفريقيا وكل من طهران وتل أبيب، مما يثير تساؤلات جوهرية حول تنوع مواقف الدول الإفريقية وكيفية تعاملها مع تداعيات النزاع. كما تكشف التطورات الراهنة حجم التعقيدات التي تحيط بالقارة في خضم الصراع، وتأثيراته المتعددة على استقرارها ومستقبلها السياسي والاقتصادي ضمن منظومة العلاقات الدولية.

 

إعداد: سهيلة التاور

 

شهدت منطقة الشرق الأوسط تصعيدا دراماتيكيا، إثر اندلاع مواجهة عسكرية غير مسبوقة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودولة إسرائيل، في سياق أمني محتقن وانقسامات جيوسياسية متفاقمة. هذا التصعيد الذي بلغ ذروته في هجمات إسرائيلية جوية واسعة ضد منشآت إيرانية، قابله ردّ صاروخي إيراني عنيف طال قلب المدن الإسرائيلية، خلّف تداعيات تتجاوز حدود الإقليم، وصولًا إلى عمق القارة الإفريقية، التي باتت تجد نفسها على هامش خط النار، من خلال الارتدادات السياسية والاقتصادية للأزمة. وفي هذا السياق، يطرح المشهد تساؤلات محورية حول موقع إفريقيا في معادلة الصراع الراهن، وتنوع مواقف دولها، وقدرتها على إدارة مصالحها وسط استقطابات حادة.

 

موروث العلاقات الإيرانية الإفريقية

تاريخ العلاقات بين إيران وإفريقيا يمتد لقرون، سيما عبر بوابة سواحل شرق القارة، التي شكّلت معبرًا للتجار والبعثات الثقافية الفارسية، وقد ترسخ هذا الحضور بفعل التفاعلات التجارية والدينية. إلا أن التحول الجوهري جاء بعد الثورة الإسلامية عام 1979، حين أعادت طهران تشكيل سياستها الخارجية بمنظور أيديولوجي يروج للثورة الإسلامية كقيمة عابرة للحدود. ومنذ ذلك الحين، انخرطت إيران في تمويل مؤسسات دينية، وتقديم منح تعليمية، وتوقيع اتفاقيات في مجالات الزراعة والطاقة، مستفيدة من خطابها المناهض للاستعمار الغربي. غير أن هذا الحضور ظلّ يراوح بين الزخم والتراجع، وسط تحديات متعلقة بضعف التنفيذ، وتقلب النوايا السياسية، وضغوط مضادة من أطراف إقليمية وغربية تناهض التوسع الإيراني.

 

إسرائيل في إفريقيا

 

منذ إعلان تأسيسها عام 1948، سعت إسرائيل إلى كسر الطوق العربي المحيط بها من خلال الانفتاح على القارة الإفريقية، مقدمة نفسها كدولة صاعدة ذات تجربة تنموية قابلة للتصدير، خصوصًا في ميادين الزراعة والتقنيات الحديثة والإدارة العامة. وتوج هذا التوجه ببناء شبكات دبلوماسية مكثفة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. غير أن حرب أكتوبر 1973 مثّلت نقطة انقطاع حاد، حين قطعت غالبية العواصم الإفريقية علاقاتها مع تل أبيب، مدفوعة بالاصطفاف العربي وسلاح النفط. في العقود اللاحقة، أعادت إسرائيل تموضعها عبر التعاون الأمني، والمساعدات الفنية، وعقد اتفاقيات في مجالات التكنولوجيا والزراعة، وتوسيع شراكاتها مع دول مثل رواندا، إثيوبيا وكينيا، في سياق تنافسي مع قوى إقليمية أبرزها إيران وتركيا.

 

تعددية المواقف الإفريقية

 

في ضوء التصعيد الإيراني / الإسرائيلي، عبّرت العواصم الإفريقية عن مواقف متباينة، تعكس تفاوت أولوياتها الاستراتيجية، وتداخل مصالحها الدولية. فقد انقسمت ردود الأفعال بين دول تبنّت موقفًا محايدًا مناديًا بخفض التوتر، كنيجيريا وكينيا ومصر، التي دعت جميعها إلى ضبط النفس والاحتكام للحوار. في المقابل، اختارت تونس التعبير عن موقف مناصر لإيران، منددة بما وصفته بـ”العدوان الإسرائيلي السافر”، فيما لجأت دول أخرى كرواندا وكوت ديفوار إلى الصمت الرسمي، ما فُسّر كموقف متوازن يسعى للحفاظ على علاقات ثنائية مع أطراف النزاع دون التورط في صراعات لا تخدم أولوياتها.

 

الاعتبارات الداخلية والخارجية

تُظهر المواقف الإفريقية حجم التعقيدات التي تواجه صانع القرار في القارة، إذ إن كثيرًا من هذه الدول تنظر إلى النزاع من زاوية تأثيره على استقرارها الاقتصادي والسياسي. فتبنّي موقف حاد قد يعرضها لخسارة تمويلات أو دعم فني من شركاء دوليين، خاصة في ظل العلاقات المتشابكة مع قوى غربية داعمة لإسرائيل، أو مع تحالفات عربية متعاطفة مع إيران. كما أن بعض الدول تمرّ بأوضاع داخلية مضطربة، تجعل من الحياد خيارًا آمنًا، في حين تلجأ أخرى إلى تبني خطاب دبلوماسي عام لا يتجاوز عبارات التهدئة والدعوة للسلام، ما يقيها أي تبعات محتملة على المدى القريب.

 

الانعكاسات الاقتصادية للنزاع

ارتفاع أسعار الطاقة والمعادن

يمثل الشرق الأوسط مركزًا حيويًا لإنتاج النفط العالمي، حيث تتربع إيران على المرتبة الثالثة من حيث الإنتاج في المنطقة، رغم العقوبات الدولية المفروضة عليها. وقد أثرت الضربات الإسرائيلية الأخيرة على المنشآت الإيرانية بشكل مباشر على أسعار النفط، حيث شهدت عقود خام برنت ارتفاعًا حادًا تجاوز 7 دولارات للبرميل، مع تحذيرات من استمرار الارتفاع إلى أكثر من 80 أو حتى 100 دولار للبرميل. ويمثل هذا الارتفاع تحديًا كبيرًا لدول إفريقيا المستوردة للطاقة، في حين قد تستفيد دول مثل نيجيريا وليبيا والجزائر من ارتفاع العائدات النفطية، لكن مع زيادة التكاليف على الواردات الأخرى.

أما الذهب، فبسبب حالة عدم اليقين التي خلقتها المواجهات، ارتفع سعره كملاذ آمن، مما يعزز عوائد الدول الإفريقية المنتجة له، إلا أن ضعف الصناعة المحلية يحد من استفادة القارة الكلية من هذا الارتفاع.

 

التأثير على أسواق المال

شهدت البورصات الإفريقية تراجعًا طفيفًا في ظل تصاعد التوترات، حيث تأثرت بورصة جوهانسبرغ والنيجيرية بموجة بيع قصيرة الأجل من المستثمرين الأجانب الباحثين عن الأمان، مع ارتفاع عوائد السندات وارتفاع المخاطر السوقية، لكن توقعات زيادة عائدات النفط منحت بعض التفاؤل بآفاق الاستقرار.

 

التأثيرات غير المباشرة للنفط

التضخم المرتفع وتحديات الأسعار

أدت الحرب إلى زيادة معدلات التضخم في معظم دول إفريقيا، خاصة المستوردة للنفط والسلع الغذائية، نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف النقل. تشير الدراسات إلى أن كل زيادة بنسبة 10 في المائة في أسعار النفط تضيف حوالي 0.4 في المائة إلى معدل التضخم السنوي، مع توقعات بارتفاع إضافي خلال النصف الثاني من 2025 في حال استمرار ارتفاع أسعار النفط، مما يضع ضغوطًا إضافية على الاقتصادات الهشة مثل السودان وإثيوبيا والصومال.

 

اضطرابات التجارة واللوجستيات البحرية

تفاقمت المخاوف من تأثير النزاع على طرق التجارة الدولية، لا سيما بعد إعلان إيران عن إمكانية إغلاق مضيق هرمز، مما يهدد حركة ناقلات النفط والسلع الأساسية عبر البحر الأحمر وقناة السويس. وتعد دول مثل جيبوتي وإثيوبيا وكينيا معرضة بشكل خاص لآثار تعطّل هذه الممرات، إذ تعتمد بشكل كبير على موانئها البحرية لتلبية احتياجاتها التجارية.

 

الأمن الغذائي وسط الأزمات

يرتبط ارتفاع أسعار الطاقة بزيادة تكاليف الغذاء، مما يزيد من خطر تفاقم الأزمات الغذائية في إفريقيا، لا سيما في دول شرق إفريقيا التي تعتمد على الموانئ المجاورة لمناطق النزاع. وتشير التقديرات إلى أن التضخم الغذائي قد يرتفع بشكل ملحوظ إذا استمرت المشاكل في شحن المواد الأساسية.

وتسعى إيران لتعزيز نفوذها عبر استثمارات وتجارة محدودة نسبيًا مع الدول الإفريقية، حيث تركز صادراتها على مواد مثل الشاي من كينيا والمنتجات الخام. ومع ذلك، قد يؤثر استمرار الصراع وعزلة إيران الدبلوماسية على تعثر هذه العلاقات، خصوصًا في قطاعات النفط والتأمين البحري.

 

آليات مواجهة الصدمات الاقتصادية

تنويع مصادر الطاقة وتعزيز المخزون الاستراتيجي

تسعى الدول إلى تقليل الاعتماد على واردات الطاقة عبر تنويع مصادرها، الاستثمار في الطاقات المتجددة، وتأمين مخزونات احتياطية للنفط والغاز.

 

تعزيز الأمن الغذائي وزيادة الإنتاج المحلي

التركيز على دعم الزراعة المحلية وتحسين أنظمة التخزين وتفعيل التعاون الإقليمي لتخفيف الاعتماد على الواردات الغذائية.

 

تحقيق استقرار مالي ونقدي

تطبيق سياسات مرنة لرصد وتحجيم تأثير تقلبات الأسعار، مع تعزيز احتياطيات العملات الأجنبية والتنسيق بين المؤسسات المالية.

 

حماية طرق التجارة والتعاون الإقليمي

تعزيز الأمن البحري والبري بالتعاون مع الدول المجاورة، لضمان استمرار تدفق البضائع وتقليل المخاطر على الموانئ الحيوية.

 

العمل الدبلوماسي والتعاون الدولي

السعي لحلول سلمية للنزاع من خلال الاتحاد الإفريقي والشركاء الدوليين، مع تأمين مساعدات عاجلة عند الضرورة.

 

إعداد خطط طوارئ مرنة

إنشاء آليات استباقية للتعامل مع الأزمات، ودعم القطاعات الاقتصادية التي قد تستفيد من التغيرات الجيوسياسية.

 

أزمة في الرؤية الدبلوماسية

 

تبرز الأزمة الراهنة عجز الاتحاد الإفريقي عن تبني موقف موحد يعبر عن مصالح القارة في النزاعات الدولية. فباستثناء مواقف فردية، غابت المبادرات الجماعية، واختفى التأثير الفعلي على الساحة الدبلوماسية الدولية. ويرى مراقبون أن هذا التردد ناتج عن الانقسامات السياسية بين الدول الأعضاء، وتفاوت مستوى الاعتماد على القوى الدولية، ما يمنع صياغة سياسة خارجية جماعية متماسكة. كما يعكس استمرار التبعية للتمويل الخارجي والضغوط الدبلوماسية الغربية، ما يقوّض أي طموح إفريقي في لعب دور فاعل ومستقل على الساحة العالمية.

 

وحدة الخطاب رغم اختلاف النوايا

 

رغم تباين الخلفيات والمصالح، تلاقى أغلب الخطاب السياسي الإفريقي حول ضرورة خفض التوتر، وتغليب الحلول السياسية. فمن مصر إلى غانا، ومن نيجيريا إلى جنوب إفريقيا، دعت التصريحات الرسمية إلى احترام القانون الدولي، ووقف التصعيد العسكري، وتفعيل دور الأمم المتحدة كوسيط. أما الدول التي امتنعت عن التعليق، فقد سعت في الأغلب إلى تجنب إثارة حساسية أحد الطرفين المتصارعين، وفضلت الاكتفاء برسائل غير مباشرة تنادي بالسلام. ويعكس هذا الالتقاء في المضمون إدراكًا متزايدًا لدى القادة الأفارقة بأن الاستقرار الإقليمي شرط أساسي لتأمين البيئة التنموية والاقتصادية المطلوبة.

وتبرز الأزمة الإيرانيةـ الإسرائيلية كفرصة اختبار لمكانة القارة الإفريقية في الخارطة الجيوسياسية المعاصرة. ففي حين عكست بعض الدول قدرة نسبية على الحفاظ على التوازن في علاقاتها، فإن كثيرًا منها لا يزال محكومًا باعتبارات خارجية تحدّ من حرية حركته الدبلوماسية. ومع تصاعد الأزمات العالمية وتوسع تأثيراتها الاقتصادية، تبدو الحاجة ملحة لإعادة هيكلة الرؤية السياسية للقارة، وبناء موقف موحد قادر على التعبير عن مصالحها بعيدًا عن الاستقطاب.

وفي هذا السياق، تصبح القارة مطالبة أكثر من أي وقت مضى بإعادة تفعيل أدواتها الدبلوماسية، وتنسيق مواقفها ضمن أطر إقليمية قوية، تمكنها من التحول من هامش التفاعل إلى مركز الفعل في القضايا الدولية الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى