سري للغاية

حسن فرج: «بعد حصولي على الباكلوريا اتصلت بي أمي لتخبرني أن عبد الفتاح في ألمانيا وأنه مصاب بالسرطان!»

حاوره: يونس جنوحي

  • توقفنا عند التحذير الذي وجهه إليك مدير الثانوية التي درست بها في فرنسا.. هل كان هناك من يتابع قصتك أو وضعك هناك ؟

لا أعلم تحديدا. في فترة قصيرة أصبحت اجتماعيا وتعرفت على أغلب الأساتذة، لكني لم أحك قصتي مع عبد الفتاح فرج لأحد. وبقيت أموري على ما كانت عليه. أدرس، وأقيم في المكان الذي ساعدني الدكتور على اكترائه، وأتلقى بين الفينة والأخرى اتصالات قصيرة من والدتي تسألني فيها عن أوضاعي. كنت أشك في البداية أن الأمر لم يكن بهدف الاطمئنان علي بقدر ما كان رغبة في معرفة أخباري، لكني تأكدت لاحقا أنها كانت تعطف عليّ فعلا، وتحتاجني إلى جانبها، خصوصا بعد انتقال عبد الفتاح فرج إلى الإقامة في ألمانيا نهائيا في الفترة نفسها تقريبا.
أذكر أنه كان لدينا في تلك الثانوية أستاذ فلسفة متقدم في السن، وقد حكوا لي عنه أنه كان يدرّس في المغرب، وأنه كان أستاذا لواحدة من الأميرات قبل سنوات. فبدأت أشك إن كان يعرف أنني ابن عبد الفتاح فرج، انطلاقا من الاسم العائلي. لأنه إذا كان يدخل القصر الملكي فلا بد أن يتعرف على والدي والمقربين وقتها من الملك الراحل الحسن الثاني.
هذه الشكوك بدأت تكبر خصوصا عندما أعود بالأحداث إلى الوراء، وأجد أن اختيار الثانوية كان راجعا لوالدتي بالأساس..

  • لكنك أخبرتنا أنك قررت في برلين أن تقدم على هذه الخطوة وتواصل الدراسة في فرنسا..

صحيح، لكن والدتي في اتصالاتها مع قنيدل حددا معا اسم الثانوية التي سأتوجه إليها، ولحقت بي لتسجلني هناك شخصيا. في الحقيقة أشك كثيرا في هذه الأمور. الفكرة من اقتراحي والقرار اتخذته دون أي ضغوط خارجية، لكن والدتي عندما علمت بالأمر، وجهتني إلى تلك الثانوية تحديدا عن طريق الدكتور قنيدل.
كنت أظن في البداية أن الأمر صدفة، لكن السنوات والأحداث التي عشتها جعلتني أتيقن أنه لا وجود أبدا للصدف في هذه الحياة.. وتقوى لدي الإحساس دائما بأنني مراقب.
ما لاحظته أيضا أن الأساتذة في تلك الثانوية لم يكونوا أبدا في المستوى المطلوب، ولم يكونوا يتجاوبون معنا كتلاميذ، ويحدث أن يطرح أحدنا سؤالا على أحد الأساتذة ولا يكلف نفسه عناء الشرح أو التفسير. هذا الوضع جعلني أفكر جديا في مغادرة تلك الثانوية خلال السنة ذاتها. توجهت عند المدير وقلت له إن المال الذي دفعته والدتي للمدرسة كان بهدف تعليمي حتى أستطيع اجتياز امتحان الباكلوريا وليس بهدف السياحة، وطلبت منه أن يعيد إليّ المال حتى أتوجه إلى ثانوية أخرى لاستكمال الدروس.

  • هل كنت تريدها ذريعة للهروب من الرقابة مثلا؟

لا لا.. لقد كانت فعلا مهزلة. بعض الأساتذة كانوا غير عابئين بالتلاميذ نهائيا، ولم يكلفوا أنفسهم عناء شرح الدروس. كان كل همي وقتها مركزا على الإعداد جيدا لشهادة الباكلوريا، لأنني أعلم أن حياتي ستكون أصعب بدونها. بما أنني أضيع وقتي، رأيت أنه من الأفضل لي أن أتقدم لاجتياز الباكلوريا كتلميذ حرّ، وبعد مفاوضات كثيرة، وافق المدير على طلبي، وغادرت تلك الثانوية.

  • أيعني هذا أنك هربت من الرقابة؟

لم أنظر للأمر بتلك الطريقة، وبقيت مقيما في المنطقة نفسها، ولن يمنعهم أحد من مراقبتي لو أرادوا ذلك في أي مكان آخر. المهم أنني أعددت جيدا للباكالوريا بنفسي، وأمضيت شهورا وأنا أدرس وحيدا في مسكني، وأتوجه إلى الشاطئ، وأحاول التركيز جيدا. عندما جاء يوم الامتحان، توجهت إلى المكان المخصص للأحرار، واجتزت الامتحانات بدون مشاكل وحصلت على الباكلوريا في موسم 2004، وفكرت في أن أواصل دراستي العليا، لكن في غمرة الإعداد لما بعد الباكلوريا، اتصلت بي والدتي لتخبرني أن عبد الفتاح فرج في ألمانيا، مريض جدا، والطبيب يقول إنه لم يتبق له الكثير ليعيشه.

  • حتى لا نستعجل الأمور.. هل كنت على اتصال مع والدتك حتى بعد مغادرة الثانوية؟

كنا على اتصال دائم عندما كنت في فرنسا، وكانت تتصل بي بانتظام، وتسألني الأسئلة ذاتها تقريبا في كل مكالمة: «آلو حسن.. كيف حالك؟ كيف الجو عندكم هناك؟».. أشياء من هذا القبيل، ثم تنهي المكالمة وتعاود الاتصال بعد أيام قليلة لتعيد الأسئلة ذاتها، وتطمئن علي، وهكذا.. لكن أحيانا كانت تجدني في حالة نفسية حرجة، فأسألها عن أسرتي الحقيقية، وكانت دائما تقول لي إنها لا تعلم عنها أي شيء، وعندما كنت أُلح في السؤال، كانت تقول لي إن الوحيد الذي قد يعرف أسرتي الحقيقية، هو أحد الأطباء في المركز الذي جاؤوا بي منه، لكنه للأسف توفي منذ مدة طويلة.
لم تكن تخبرني أيضا أبدا بأي شيء عن عبد الفتاح فرج، وبدوري لم أكن أسأل لا عنه ولا عن أختي خديجة. كنت أعلم أن انقطاع الاتصال السابق بيننا سببه والدي عبد الفتاح فرج، لأنه ضغط عليها كثيرا لتقطع صلتها بي، ولذلك قررت أن ألتقيها لأول مرة في فرنسا بعد سنوات من القطيعة، والسبب أنني لم أكن أريد زيادة ضغوطات عبد الفتاح عليها.. كنت أفضل أن أتحمل الألم شريطة أن تكون هي بعيدة عن الضغوطات.
أحيانا لم أكن أعلم حتى أين كانت توجد والدتي وما إن كانت تتصل بي من المغرب أو ألمانيا. لكن في تلك السنة، أصبحت تقيم بشكل متواصل تقريبا في ألمانيا، أما عبد الفتاح فرج، فإنه لم يعد للمغرب أبدا منذ أن غادره.
مرت السنة عادية، سواء قبل الامتحانات أو حتى بعدها، وبينما كنت أستعد لبدء الدراسة من جديد بعد أن عزمت على التخصص، ورد اتصال من والدتي كالعادة، كانت الساعة وقتها تشير إلى تمام التاسعة صباحا، لكن الاتصال لم يكن عاديا، وأخبرتني يومها أن عبد الفتاح مريض جدا، والطبيب أخبره أنه لم يتبق أمامه الكثير ليعيشه. وطلبت مني أن آتي لرؤيته. كان هذا في شهر يوليوز أو غشت تقريبا سنة 2005..

  • ماذا كان رد فعلك؟

توجهت عندها فورا. هذه المكالمة جاءت خلال الثلاثة أشهر الأولى لبدء مساري الدراسي الجديد بعد الباكلوريا، أي في الموسم الدراسي لسنة 2005. المهم أصبحت بعد تلك المكالمة أقطع المسافة بين منطقة «Aix en Provence» وألمانيا بشكل منتظم لزيارة عائلتي ثم أعود إلى فرنسا في الليلة ذاتها، عبر السيارة، لأن المنزل الذي كانت تستقر به أمي وعبد الفتاح وأختي خديجة، لم يكن يتوفر على غرفة نوم إضافية.. وبالتالي كنت أغادر.

  • قبل ذلك.. أخبرنا عن لقائك الأول بالأسرة.. مرت أزيد من أربع سنوات من القطيعة التامة بينك وعبد الفتاح الذي لم تره منذ المساء الذي توفي فيه الملك الحسن الثاني. والأمر ذاته بالنسبة لأختك خديجة.. كيف استقبلوك؟

قطعت المسافة من فرنسا إلى مدينة «أولم» في ست ساعات، ووصلت في المساء. عندما وصلت إلى هناك، لم أتوجه إلى المنزل! بل اتصلت بوالدتي والتقيتها في مطعم لمدة لا تتجاوز 25 دقيقة، تحدثنا خلالها قليلا، وعدت بالسيارة إلى فرنسا.

  • ألم تلتق والدك عبد الفتاح؟

لم ألتقه في المرة الأولى.. تطلب الأمر بضع رحلات منتظمة لم أكن أرى خلالها إلا والدتي.

> لماذا كنت تقطع كل هذه المسافة من أجل لقاء في مطعم لعدة دقائق؟
لقد كانت تحتاج إلى من يساندها في تلك المحنة، لمست الأمر من خلال اتصالها الأول، ولم أستطع أن أتركها وحيدة تواجه حقيقة مرض عبد الفتاح المفاجئ بالسرطان. الطبيب قال لهم إن السرطان ينتشر بسرعة، ولم يتبق أمامه إلا القليل، وفعلا لم يتبق أمامه وقتها إلا أشهر قليلة.

  • هل حاولت أن تلتقيه؟

احتاج الأمر لفترة قصيرة قبل أن أقابله للمرة الأولى.. كنت أسأل والدتي عن صحته، وعلمت منها أن خديجة تقيم معهم أيضا وأنها غادرت المغرب مع الوالد. رغم ذلك، فإن والدتي كانت في لحظات كثيرة، عندما ألتقيها وحيدة، تحاول أن تخفي ضعفها كأم أولا، وتعطي الانطباع بأنها لا تزال صلبة كما اعتدنا أن نراها أيام الطفولة. ربما قساوة العيش التي واجهتها في ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية ساعدتها على التحكم في مشاعرها بذلك الشكل. حتى أنها عندما أخبرتني وجها لوجه بمرض والدي، لم تبد متأثرة بل قالت باختصار إن والدك مريض بالسرطان لقد أخبره الطبيب المختص أنه لا يملك أكثر من ثلاثة أشهر وبعدها سيموت. ولم تقدم أي شروحات أخرى، عن متابعة ملفه الطبي مثلا، أو العلاج، أو معاناته مع الأدوية.. لم تذكر لي أي شيء.

  • كم مرة بالضبط ذهبت قبل أن تلتقي عبد الفتاح فرج؟

ذهبت في المجمل، أزيد من خمس مرات منتظمة، ولم أسلم عليه إلا في المرة الأخيرة تقريبا، وبعد ذلك رأيته مرات أخرى قبل موته. يجب أن تعلم أنه لم يكن يريد لقائي.. لقد أخبرتني أمي بالأمر. حتى وهو على فراش المرض لم يكن يريد أن يستقبلني، وأنا أيضا في الحقيقة لم أكن أريد لقاءه. قمت بكل شيء من أجل والدتي فقط. وفي إحدى المرات أحسست أنه يجب علي أن أراه في الشقة بمدينة «أولم» دائما، ووافق هو أيضا على مضض.

  • هل لعبت أمك دورا في ذلك اللقاء؟

لمست من خلال كلامها أنها كانت تريدني أن أراه. كانت تحلم أن نكون أسرة طبيعية كباقي الأسر المغربية، على الأقل في الأيام الأخيرة لحياة الأب..

  • احك لنا عن لقائك الأول بعبد الفتاح فرج؟ أين؟ وكيف وجدته؟

وجدته في الفيلا التي جاء إليها، قبل أن ينقل إلى الإقامة في الشقة التي رأيته فيها مرات أخرى، وفيها عاش آخر أيامه.

  • ألم تكن الشقة نفسها التي اعتدت أن تمضي فيها العطل الصيفية في طفولتك؟

يتعلق الأمر بشقة أخرى جديدة، اشتروها ليقيم فيها عبد الفتاح بعد رحيله النهائي عن المغرب. اشتروها في مكان جميل في «أولم»، تطل على منظر رائع، وتعتبر تلك المنطقة من أغلى الأماكن السكنية إطلاقا في المدينة، وانتقلوا إليها بعد أن كانوا يقيمون في مكان آخر جاء إليه عبد الفتاح مباشرة بعد خروجه من المغرب، وهناك التقيته للمرة الأولى. المهم، رافقت والدتي إلى الفيلا.. كانت تقع في المنطقة الصناعية بـ»أولم». عندما وصلنا، قلت في نفسي: لماذا اختار عبد الفتاح فرج أن يقيم هنا؟ لماذا لم يتوجه إلى منطقة «كان» الراقية كما يفعل أصدقاؤه وكبار رجال السلطة عندما يتقاعدون نهائيا؟ لاحظت أن الفيلا كانت مكونة من طابقين، وتطل على المصانع والمداخن.. وبها قبو كان عبارة عن «بار» صغير. المهم، أدخلتني والدتي إلى غرفة كان يجلس فيها. دخلتُ، ولم يسلم عليّ بل اكتفى بإيماءة صغيرة، وبقينا ننظر إلى بعضنا البعض في صمت..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى